في صباح الرابع والعشرين من فبراير/شباط 2022، حين كانت الطائرات الروسية تحلّق بكثافة في سماء المدن الأوكرانية، ودوّي الانفجارات يملأ الأفق، بدا لكثيرين أن حسم السيطرة الجوية لصالح روسيا مسألة ساعات لا أكثر.
ويبدو أن حسابات موسكو افترضت أن التفوق العددي والتكنولوجي لسلاح الجو سيكون كفيلا بتحقيق صدمة إستراتيجية، تقصم ظهر الدفاعات الأوكرانية وتفتح الطريق أمام القوات البرية نحو قلب العاصمة.
لكن ما حدث كان عكس ذلك تماما. فقد اصطدمت الطائرات الروسية بجدار دفاعي كثيف، مدعوم بأنظمة غربية مثل “باتريوت” و”ناسامز”، وحوّلته كييف إلى شبكة مقاومة عالية الفعالية. وهكذا، بدلا من فرض الهيمنة الجوية، دخلت روسيا في معركة استنزاف طويلة، باتت فيها فعالية سلاحها الجوي متراجعة إلى حدٍّ ليس قليلا.
ووفقا لتقرير صادر عن موقع “أوريكس” (Oryx) المتخصص في توثيق الخسائر العسكرية المؤكدة عبر الصور والفيديوهات، فقد الجيش الروسي منذ بدء الحرب أكثر من 305 طائرة بين مروحية ومقاتلة، أي ما يعادل نحو ثلث أسطوله الجوي القتالي.
وشملت هذه الخسائر 63 مروحية هجومية من طراز “كا-52″، وأكثر من 40 مروحية نقل من نوع “مي-8″، بالإضافة إلى 36 مقاتلة من طراز “سوخوي-34”. ونتيجة لهذه الخسائر، تقلص عدد الطلعات الجوية اليومية إلى نحو 60 طلعة فقط، مقارنةً بـ300 طلعة في الأيام الأولى من الحرب.
وتشير مجلة القوات الجوية والفضائية إلى أن فشل موسكو في فرض التفوق الجوي، واضطرار مقاتلاتها وقاذفاتها إلى أداء أدوار ثانوية على هامش المعارك بدلا من تمهيد الطريق للقوات البرية، أفقد روسيا إمكانية تحقيق نصر حاسم في المراحل الأولى من النزاع.
ومن أبرز مظاهر هذه الخسائر أن الطائرات الروسية لجأت إلى التحليق على ارتفاعات منخفضة لتفادي الرادارات الأوكرانية المرتبطة بأنظمة الدفاع الجوي، ما جعلها عرضة لصواريخ الدفاع الجوي المحمولة على الكتف، وعلى رأسها نظام “ستينغر” قصير المدى.
ووفقا لتقرير صادر عن “مركز التميز الجوي المشترك” (JAPCC)، فإن معظم الطائرات الروسية التي أُسقِطت كانت تحلق على ارتفاعات منخفضة جدا، ضمن نطاق فعالية هذه الأنظمة المحمولة.
والمفارقة أن هذا الإخفاق الروسي في تحقيق التفوق الجوي أثار قلقا لدى حلفاء أوكرانيا، وعلى رأسهم دول حلف الناتو، نظرا لاعتماد العقيدة العسكرية الغربية، بصورة مشابهة، على قوات برية صغيرة نسبيا مدعومة بقوة جوية متفوقة، وهي عقيدة أثبتت فاعليتها سابقا، كما في الحرب العالمية الثانية وحرب الخليج، لكن الحرب الجوية الدائرة فوق أوكرانيا بدأت تثير تساؤلات جدية حول مدى ملاءمة هذا النموذج لمعارك المستقبل.
لماذا أخفقت موسكو مبكرا في فرض الهيمنة الجوية؟
في الأيام الأولى للحرب، كانت روسيا تدخل المعركة بوهم النصر السريع، مسلّحة بأحد أضخم أساطيل الجو في العالم، ومطمئنة إلى أن السماء ستكون أول ما يُحسم في هذه الحرب، كما حدث في جورجيا عام 2008، وفي سوريا بعد ذلك بسنوات، لكن ما جرى في سماء أوكرانيا كان عكس كل ذلك.
فقبل أن ينطلق أول الصواريخ الروسية بأيام، كانت أوكرانيا قد بدأت تنفيذ خطة طوارئ استباقية جريئة. وخلال ساعات، فُرِّغت القواعد الجوية الكبرى من الطائرات والذخائر، ونُقلت الأصول الحيوية إلى مطارات فرعية وأخرى مؤقتة، بعضها مدني، وبعضها خاضع للتمويه الكامل.
لم تكتفِ كييف بذلك، بل نشرت بطاريات وهمية ورادارات مزيفة لتضليل الطيران الروسي، ووزّعت منصات إطلاق الصواريخ المحمولة على الكتف في مساحات مفتوحة يصعب تعقبها.
وحتى وحدات الدفاع الجوي الثقيلة، فُكِّكت وأُعيد توزيعها ميدانيا قبل ساعات فقط من بدء الهجوم، ما جعل الضربة الروسية الأولى، رغم قوتها النارية، تُصيب فراغا. وصحيحٌ أن هذا التشتت السريع أضعف من قدرة كييف على تنسيق دفاعاتها الجوية في الساعات الأولى، لكنه في المقابل أنقذ بنيتها التحتية الجوية من التدمير الشامل.
في المقابل، كانت الخطة الروسية تعتمد على تطويق الجيش الأوكراني في الشرق والجنوب الشرقي، وتحقيق تفوق جوي عبر هجمات صاروخية وجوية مركّزة تمهّد للسيطرة على السماء.
بدأت العملية بضربات إلكترونية هدفت إلى تعطيل الرادارات الأوكرانية، أعقبتها موجة من القصف المكثف استهدفت أكثر من 100 هدف عسكري، شملت قواعد جوية، ومراكز قيادة، وبطاريات مضادة للطائرات. لكن المفاجأة كانت أن معظم هذه المواقع قد فُرّغت بالكامل من الأصول الحيوية، ما جعل الضربات تفقد قيمتها الإستراتيجية.
وقد زاد من محدودية الأثر أن نسبة كبيرة من الذخائر الروسية المستخدمة لم تكن من النوع الموجَّه، مما قلّل من دقة الإصابة، وأدى إلى فشل الضربة الافتتاحية في شلّ الدفاعات الجوية الأوكرانية.
ومع تعثّر التقدم البري لاحقا، انحرف سلاح الجو الروسي تدريجيا عن مهمته الإستراتيجية الأساسية، وبدأ يؤدّي أدوارا تكتيكية مباشرة لتقديم دعم أرضي، في مشهد يُجسد باكورة الإخفاقات في الحسابات الروسية.
طائرات موسكو في مهبّ الصواريخ المحمولة
كان تحول سلاح الجو من التركيز على الأهداف الإستراتيجية إلى المهام التكتيكية أحد أكثر وجوه الإخفاق الروسي كلفة في الحرب الجوية.
فبدلا من مواصلة حملة منهجية للسيطرة على الأجواء، انزلق سلاح الجو الروسي إلى معارك استنزاف جانبية، محدودة الدقة والعائد العسكري، في مشهد أعاد إلى الأذهان مفهوم “المدفعية الجوية” الذي اشتهر به الجيش السوفياتي خلال الحرب العالمية الثانية، حين كانت الطائرات تُسخَّر لدعم القوات البرية مباشرة.

في الوقت ذاته، عانت القوات الروسية من محدودية القدرة على التعامل مع الأهداف المتحركة، لا سيما منصات الدفاع الجوي المتنقلة التي اعتمدتها أوكرانيا بمرونة ميدانية عالية. وقد ازدادت هذه التحديات تعقيدا بفعل تدفق المعلومات الاستخباراتية الغربية إلى كييف على نحو متواصل، مما مَكَّنها من إعادة توزيع الوحدات الدفاعية في توقيتات حرجة، وسمح لها بتفادي الضربات الموجهة.
ومع استمرار الدعم العسكري الغربي، بدأت روسيا تخسر السيطرة على سماء المعركة أكثر فأكثر. لجأ الطيارون الروس إلى التحليق على ارتفاعات منخفضة لتجنّب الرادارات، مستخدمين قنابل غير موجهة في ضرب الخطوط الأمامية، وهو ما جعلهم عرضة مباشرة لصواريخ “ستينغر” المحمولة على الكتف.
وفي أسبوع واحد فقط، خسرت موسكو ما لا يقل عن 8 طائرات بسبب هذه التكتيكات، بل إن بعضها أُسقط بنيران صديقة، في مؤشر فاضح على الفوضى العملياتية داخل سلاح الجو الروسي.
يُعلّق على ذلك اللواء المتقاعد ديفيد ديبتولا، رئيس معهد ميتشل الأميركي لدراسات الفضاء، مشيرا إلى أن بيئة العمليات الجوية فوق أوكرانيا بحلول صيف 2022 تشبه إلى حدٍّ كبير ما جرى في حرب أكتوبر 1973، حين أدت كثافة الدفاعات الجوية الأرضية إلى شلّ حركة الطيران الإسرائيلي خلال أيام، وأسقطت صواريخ “سام” السوفياتية نحو 60 مقاتلة في أربعة أيام فقط.
كان هذا الدرس كفيلا بدفع الولايات المتحدة نحو تطوير تكنولوجيا التخفي الجوي، التي تجسّدت لاحقا في مقاتلات شبحية مثل “إف-117”.
ويرى ديبتولا أن الأجواء الأوكرانية شهدت، بحلول خريف 2022، ما يمكن وصفه بـ”توازن دموي”، وهو توازن غير متوقع نشأ بسبب فاعلية منظومات الدفاع الجوي الأوكرانية. فبينما أصبح التحليق الروسي على ارتفاعات منخفضة أشبه بالانتحار نتيجة كثافة الصواريخ المحمولة، غدا التحليق على ارتفاعات متوسطة وعالية مستحيلا هو الآخر بسبب شبكات الدفاع الجوي الغربية المتقدمة.
دفعت هذه البيئة روسيا إلى تغيير تكتيكاتها مجددا، فلجأت إلى استخدام “القنابل الانزلاقية”، وهي ذخائر تُطلق من مسافات بعيدة خارج نطاق الدفاعات، وتتيح تنفيذ ضربات دقيقة نسبيا دون الحاجة إلى اختراق الأجواء المحمية، أو المخاطرة بطائراتها وطياريها.
دقة بلا سيطرة جوية
رغم أن هذه القنابل الانزلاقية تبدو حديثة، فإن جذورها تعود إلى الحرب العالمية الثانية. ففي عام 1943، استخدم الألمان قنابل “فريتز إكس” (Fritz X)، أول ذخيرة موجهة بدقة في التاريخ، التي كانت تُستخدم ضد السفن وتُوجَّه لا سلكيا.
آنذاك، بدت هذه القنابل وكأنها سلاح معقد وباهظ، لكنها اليوم تحوّلت إلى أداة رخيصة نسبيا ضمن ترسانة متقادمة، أعادت روسيا تدويرها لتواكب متطلبات ساحة قتال حديثة.
فأغلب هذه القنابل تعود إلى عصر الاتحاد السوفيتي، ولا تحتاج إلا إلى ترقية تُقدّر بنحو 20 ألف دولار للقنبلة الواحدة، وفقا لتقديرات مركز تحليل السياسة الأوروبية، وهي تكلفة ضئيلة جدا إذا ما قورنت بصواريخ موجهة مثل “كاليبر”، التي تتجاوز تكلفة الواحد منها 6.5 ملايين دولار.
وفضلا عن الكلفة، فإن هذه الترقية تستهلك وقتا أقل من تصنيع صاروخ موجَّه جديد، مما يجعلها خيارا عمليا لتغطية نقص الذخائر عالية الدقة في ترسانة موسكو، خاصة مع امتداد الحرب وتحولها إلى استنزاف طويل الأمد.
وهي عبارة عن قنابل تقليدية غير موجهة، من طرازات مثل “FAB-500” أو “FAB-3000″، زُوِّدت بحزمة توجيه ذكية وأجنحة قابلة للطي تُعرف بـ”UMPK kits”. وبمجرد تركيب هذه الحزمة، تتحوّل القنبلة من قذيفة تُسقَط رأسيا إلى ذخيرة موجهة تنزلق أفقيا نحو الهدف لمسافة قد تتجاوز 70 كيلومترا، وفقا لسرعة وارتفاع الإطلاق.
يُوجَّه مسار القنبلة عبر نظام “غلوناس” الروسي، وهو نظام ملاحة عبر الأقمار الصناعية يعادل نظام “GPS” الأميركي، ما يُمكِّن الطائرات الروسية من إطلاقها من خارج مدى الدفاعات الجوية الأوكرانية، وبالتالي تقليل فرص تعرّضها للاستهداف.
ويُذكر أن الولايات المتحدة كانت أول مَن أعاد إحياء مفهوم القنابل الموجهة، حين طورت في التسعينيات نظام “JDAM” (ذخيرة الهجوم المباشر المشتركة)، الذي يضيف إلى القنبلة التقليدية وحدة توجيه خلفية تعتمد على “GPS” أو نظام ملاحة بالقصور الذاتي، بالإضافة إلى أجنحة انزلاقية تثبّت المسار.
أما النسخة الروسية “UMPK” فقد بدأت بوصفها مقترحا من شركة “إن بي أو بازلت” عام 2003، ثم تطورت تدريجيا حتى طُرحت رسميا عام 2008 بوصفها سلاحا “اقتصاديا” لتحسين دقة ومدى القنابل السوفياتية القديمة، لكنها لم تُستخدم على نطاق واسع إلا بعد اندلاع الحرب الشاملة في أوكرانيا عام 2022، حين تحوّلت إلى أحد أكثر الأسلحة انتشارا على الجبهة.
وتعمل القنابل الانزلاقية الروسية وفق مبدأ مشابه لنظيرتها الأميركية، لكنها تعاني من درجة دقة أقل، بسبب اعتمادها الحصري على نظام “غلوناس”، وغياب نظام توجيه نهائي يُصحح مسار القنبلة في لحظاتها الأخيرة.
ومع ذلك، تبقى فعالة بدرجة معقولة، وتوفر للطائرات المُطلِقة هامش أمان تكتيكي بالغ الأهمية؛ إذ لم يعد مطلوبا من الطيار الاقتراب من الهدف أو إجراء تصويب بصري مباشر، بل يكفي الإطلاق من مسافة آمنة ثم الانسحاب، وهو ما يعدّ ميزة حاسمة في بيئة قتال تغصّ بأنظمة الرصد والاستهداف.
ويؤكد إيان ويليامز، نائب مدير مشروع الدفاع الصاروخي في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية في واشنطن، أن اعتراض القنابل الانزلاقية أصعب بكثير من اعتراض صواريخ فرط صوتية مثل “كينغال”، رغم أن الأخير يمكن أن تبلغ سرعته 12 ضِعْف سرعة الصوت.
والسبب في ذلك أن “كينغال” يحلّق على ارتفاعات عالية لفترات طويلة نسبيا، ممّا يمنح أنظمة الدفاع الجوي وقتا كافيا لرصده واستهدافه، بينما تبقى القنابل الانزلاقية في الجو لفترة قصيرة لا تتجاوز 70 ثانية، وتُطلق غالبا من ارتفاعات منخفضة أو متوسطة، ما يجعل من الصعب على الرادارات التقاطها والتعامل معها في الوقت المناسب.
في أفدييفكا وخاركيف.. حين فرضت القنابل الانزلاقية معادلتها
يتجلى الأثر المتصاعد للقنابل الانزلاقية بوضوح في ميدان المعركة، حيث تجاوزت دورها الهجومي التكتيكي، لتتحول إلى أداة ضغط إستراتيجية فعالة، باتت تُعيد رسم موازين المعركة على بعض الجبهات الأكثر اشتعالا.
في أفدييفكا، المدينة التي كانت من أكثر نقاط الدفاع الأوكراني تحصينا على الجبهة الشرقية، شكَّلت القنابل الانزلاقية رأس الحربة في الهجوم الروسي خلال شتاء 2024-2025.
ووفقا لمصادر متعددة، أطلقت القوات الروسية أكثر من 250 قنبلة انزلاقية خلال 24 ساعة فقط، مستهدفة التحصينات والملاجئ وخطوط الإمداد الخلفية. وقد أدى هذا القصف الكثيف إلى إنهاك منظومات الدفاع الأوكراني تدريجيا، وفتح المجال أمام تقدّم القوات البرية داخل المدينة.
أما في خاركيف، ثاني أكبر المدن الأوكرانية، فقد اتخذ استخدام القنابل الانزلاقية طابعا أكثر تركيزا، حيث استُخدمت في ضرب مستودعات الذخيرة والتجمعات اللوجستية، بالإضافة إلى منشآت حيوية مثل محطات الكهرباء والسكك الحديدية، بهدف تعطيل قدرة أوكرانيا على الحشد ونقل التعزيزات نحو خطوط القتال.
ووفقا لتقارير ميدانية، أصابت هذه الضربات مواقع قريبة من مركز المدينة، مما رفع الكلفة المدنية وزاد من الضغوط السياسية على كييف.
تكشف تقارير متقاطعة أن وتيرة تدمير المدن الواقعة على خطوط الجبهة خلال عام 2024 بلغت مستويات غير مسبوقة منذ بدء الحرب، ويُعزى ذلك، في جانب رئيسي منه، إلى الاستخدام المكثف للقنابل الانزلاقية.
ويبدو أن موسكو راكمت خبرة ملحوظة في توظيف هذا السلاح، إذ تشير المقارنة الزمنية إلى أن السيطرة على باخموت -التي شهدت أول استخدام للقنابل الانزلاقية- استغرقت قرابة عام، فيما احتاجت معارك أفدييفكا إلى شهور، أما في فوفتشانسك وتشاسيف يار، فقد حققت القنابل الانزلاقية تأثيرا مماثلا في بضعة أسابيع فقط.
وبحسب سلاح الجو الأوكراني، أطلقت روسيا أكثر من 51 ألف قنبلة جوية انزلاقية منذ بداية الغزو الواسع، ما يجعلها حاليا أحد أخطر التهديدات التي تواجه المدنيين في مدن المواجهة، وأحد الأسباب الرئيسية لارتفاع أعداد القتلى والجرحى في عام 2024 بنسبة 30% مقارنة بالعام السابق.
هذا التحول الكمي والنوعي يوضح كيف أصبحت القنابل الانزلاقية سلاحا عملياتيا مزدوج الوظيفة، لا يضرب فقط أهدافا عسكرية تقليدية، بل يسعى إلى زعزعة العمق الإستراتيجي الأوكراني، من خلال استهداف منشآت الطاقة، ومستودعات الإمداد، وشبكات النقل.
وقد مكّن هذا السلاح موسكو من فرض معادلة “القصف دون اشتباك”، وهو ما جعله إحدى أكثر أدواتها فاعلية في تعويض غياب السيطرة الجوية الكاملة.
ولكن رغم هذه الفاعلية، فإن القنابل الانزلاقية لا تخلو من سلبيات، فهي تفتقر إلى المحركات، وتعتمد على الزخم والارتفاع وزاوية الإطلاق، ما يجعلها حساسة لأي خطأ حسابي أو تحرك مفاجئ للهدف.
كما أن فعاليتها تظل رهينة بمدى دقة المعلومات الاستخباراتية المقدّمة للطيار قبل الضربة، ويُضاف إلى ذلك هشاشتها أمام إجراءات التشويش الإلكتروني في حالة نجاح الخصم في اعتراض إشارات الأقمار الصناعية.
وفي هذا السياق، تعمل أوكرانيا على تطوير قدراتها في الحرب الإلكترونية، بهدف تعطيل إشارات التوجيه القادمة من نظام “غلوناس”، ما من شأنه التأثير على دقة القنابل وتوجيهها نحو مناطق غير مأهولة. في المقابل، تسرّع موسكو من تطوير أنظمة تصحيح مقاومة للتشويش، عبر إدماج وحدات التوجيه بالقصور الذاتي (INS) في الفئات الأحدث من هذه القنابل.
لكن التهديد الأكبر الذي تواجهه موسكو على هذا الصعيد قد لا يكون إلكترونيا بقدر ما هو جوي، فحصول أوكرانيا على مقاتلات “إف-16” الغربية يُمثِّل خطرا نوعيا، نظرا لقدرتها على الرصد والاشتباك من مسافات بعيدة، وهو ما قد يتيح للقوات الجوية الأوكرانية فرض درجة جديدة من الردع الجوي ضد الطائرات الروسية التي تطلق القنابل الانزلاقية من خارج نطاق المواجهة.
وبذلك قد لا يبقى نهج “القصف دون اشتباك” فعّالا في المستقبل القريب، وقد تصبح القنابل الانزلاقية ذاتها غير قادرة على تعويض ما افتقدته موسكو منذ الأيام الأولى للحرب؛ وهو الهيمنة من الأعلى.