للذاكرة شأن عجيب، فقد ينسى الإنسان أغراضه، ومهامه، ومحادثاته مع أصدقائه، وتفاصيل يومه، لكن لا ينسى مشهدا بعينه، أو عدّة مشاهد من طفولته قبل عشرات السنين. ولعل هذا حال وزير داخلية فرنسا السابق جيرالد موسى دارمانان، والذي خرج من منصبه قبل أسابيع قليلة، وهو يُكثر الحديث عن أيام نشأته، ومواقفه مع أمه، ويقتبس من كلام جدته، لكنَّ حدثا ما يتذكره دارمانان جيدا، لأنه بالقطع أخطر ما حضره في طفولته، ومع ذلك لا يتحدث عنه أبدا.
كان ذلك في شهر أكتوبر/تشرين الأول عام 1993، عندما احتفل دارمانان ببلوغه الحادية عشرة. في ذلك الوقت، كان يعيش مع أمه ذات الأصول الجزائرية، بعد انفصالها عن أبيه الفرنسي الذي جاء من مالطا وتعود أصوله إلى أرمينيا.
كان دارمانان يزور أباه أيام العطل بصحبة أخته غير الشقيقة التي تكبره وابنها بوريس، الذي كان، مثل دارمانان، يعيش مع أمه ويرى أباه أيام الإجازات. لكن في أحد أيام العطلة، تأخر طليق أخته في إحضار بوريس، قلقت العائلة، وبعد أن طال الوقت، خرج الجد ليبحث عن حفيده، وعندما وصل إلى منزل نسيبه السابق، وجد جريمة مفجعة؛ كان بوريس غارقا في دمائه بعدما طعنه أبوه وقتله ثم انتحر!
انهارت الأم، وكاد أن يجُنَّ الأب، وخاف على ابنه جيرالد أشد الخوف، فأخرجه من المدرسة، وذهب به إلى صديقة للعائلة في شمال فرنسا ليقيم عندها. قضى الفتى هناك خمسة أشهر، وهو ما اضطره أن يعيد عامه الدراسي.
تُعبِّر هذه الجريمة عن الطبقة الاجتماعية التي قدم منها من سيشرف على الأمن في فرنسا بعد عقدين، وعن نمط الحياة البائس الذي عاشه ولعله كان دافعه نحو التغيير. تربى دارمانان بين أحضان عائلة ممتدة عاشت على الشقاق والطلاق وقلق السعي نحو المكانة، لم ينجح منها أحد دراسيا، ولم يبرز أبناؤها وظيفيا إلا في أضيق الحدود. لم يكن الفتى دارمانان يرغب أن يظل حبيس هذا العالم، وكان يحلم بحياة أخرى لا تشبه هذه الحياة، فما الطريق؟
بعد تلك الحادثة بأشهر، سأل أمه، ابنة الجزائري المسلم، التي تعمل في حراسة إحدى البنايات الراقية في باريس، عما يمكن أن يفعله كي يصبح رئيسا للجمهورية، وقبل أن تجيب، باغتته صديقتها بإسداء نصيحة التزم بحذافيرها: “إذا أردت أن تصبح سياسيا، فعليك أن تنخرط في النشاط السياسي والحزبي مبكرا، في سن السادسة عشرة”.
أصبح دارمانان سياسيا يجيد ترويض الظروف لخدمة مصلحته ودعم نفوذه، واختار أن يعبر إلى أقصى اليمين، ليتحول حفيد المسلم إلى أحد أشرس أعداء الإسلام والمسلمين في فرنسا، ولا يبدو أن مسيرته الطموحة ستتوقف عند منصب وزير الداخلية.
لكن قصة دارمانان ليست قصة فرد، بل حكاية طبقة اجتماعية جاءت من أرض عربية، وغُرست في تربة غريبة عنها، فكان ثمرتها الشوك والحنظل. هنا السؤال: لماذا عادى دارمانان تراث آبائه وأجداده، وقرر أن يكون رأس حربة في يد “متطرفي” الجمهورية ضد المسلمين الراغبين في العيش بسلام في فرنسا؟
الحرْكي على أرض فرنسا
مع نهاية حرب التحرير، تعهدت الحكومة الفرنسية للمتعاونين الجزائريين الذين انخرطوا في القتال ضد شعبهم بنقلهم الى فرنسا أو حمايتهم على أرض الجزائر. أطلق الجزائريون لقب “الحركي” على هؤلاء، وتعني في الثقافة الشعبية “الخائن”، وهو اللفظ الذي يستخدمه الفرنسيون كذلك لوصفهم، ويستعملونه هم أنفسهم لتعريف أنفسهم (Harki).
اختلفت مصائر “الحركي” -والكلمة تُستخدم للجمع وللمفرد- بعد أن رحلوا الى فرنسا. ومن نسل أحد هؤلاء المتعاونين جاء جيرالد إذ وُلد لابنة جندي يُدعى “موسى واكيد” وحمل اسم جده اسمًا أوسط لا يستخدمه كثيرا، لكنه يبقى دليلا على تاريخ لن يُمحى للوزير دارمانان، ومفتاحا صالحا لفتح دواليب شخصيته.
وُلد موسى واكيد في الجزائر عام 1907، وانضم إلى الجيش الفرنسي في سن الرابعة عشرة، قبل أن يسافر إلى فرنسا ليشارك في معارك فاصلة لتحرير مناطق فرنسية من أيدي النازيين. تقول بعض الروايات إن موسى حارب في الجزائر ضد أبناء شعبه، لكن الأرجح أن ذلك لم يحدث. غير أن انخراطه في الجيش الفرنسي جعله يقطع جذوره ببلاده تماما. تزوج موسى من أسرة كاثوليكية، ثم انتقل مع زوجته إلى شمالي فرنسا، ليستقرا ويفتتحا مطعما لا تزال تتذكر أسرته بفخر كيف زاره مؤسس الجمهورية الفرنسية الخامسة شارل ديغول. وقرر أن يربي أبناءه على دين أمهم فعمدهم في الكنيسة.
يتذكر دارمانان جده بفخر كمَن ينتمي إلى أحد عظماء التاريخ، ويستحضر إرثه كلما اقتضى الأمر، ويحتج به سياسيا وفكريا، ويقدم عنه صورة تحبها فرنسا اللائكية التي ترى أن نموذج المسلم الفرنسي الصالح هو الذي يكون إسلامه في قلبه، وأُسس الجمهورية العلمانية تملأ حياته وتشغل جوارحه. هل هي سيكولوجية المقهور التي تجعله يتبنى مقولات وأفكار جلّاده، أم هو الاقتناع الحقيقي بالأفكار اليمينية التي تجعل منه فرنسيا خالصا، ليس من جهة الأصول التي لا يستطيع تغييرها، بل من جهة التماهي في شخصية المستعمر القديم ليتسنى له رسم مستقبله حيث استحال عليه تغيير ماضيه.
هذه أمي، آني
في أحد أيام أكتوبر/تشرين الأول من عام 2021، وفي مكتب عمدة مدينة “أسنون”، جنوبي باريس، كان وزير الداخلية جيرالد دارمانان يجلس مع فابيان روسيل، المرشح الرئاسي عن الحزب الشيوعي الفرنسي في انتخابات عام 2022، حينما دخلت امرأة ذات شعر أصفر يميل إلى البياض بواقع السنوات، قبَّلته على رأسه فاستغل الفرصة لتقديمها للجمع: “هذه أمي، آني”، متفاخرًا أنها ما زالت تعمل لتأمين قوت يومها.
كان دارمانان يزور تلك المنطقة بمناسبة تكريم جده، ضابط الصف موسى أوكيد، الذي قررت المدينة وضع اسمه على أحد شوارعها اعترافا متأخرا بخدمته فرنسا. ظل طيف موسى حاضرا في معظم خطابات دارمانان الدعائية، مُذكِّرا بدوره ومُنوِّها بصعوده العصامي وكيف جاء من أسرة بسيطة، ليؤكد صورته بوصفه أحد أبناء الطبقة الشعبية الذي تمكن من الحفر في الصخر ليصبح شرطي فرنسا الأول.
أما جيرالد نفسه، بطل هذه الحكاية، فقد وُلد في 11 أكتوبر/تشرين الأول 1982 بمدينة فالنسيان، شمالي فرنسا، كان والداه يديران مقهى في المدينة ما زال قائما في المكان نفسه. وبعد طلاقهما توجهت أمه إلى العاصمة باريس، حيث عملت حارسة بإحدى بنايات عِلية القوم بالمقاطعة السادسة عشرة. يقول دارمانان عن تلك الفترة في حياته إنه لا ينسى أبدا تجاهل السكان له ولأمه أثناء مرورهم بجوارهما دون إلقاء السلام. وبالطبع، عليك أن تتوقع أن مثل هذه القصص لا تخلو منها أحاديثه وتصريحاته، للتذكير بأنه قد صعد إلى قمة السلم الوظيفي من الدرج الذي كانت تنظفه أمه ذات يوم.
يمتلك خصوم دارمانان السياسيون الحق الكامل في التشكيك في هذه السردية. فالطفل درس في مدرسة ابتدائية خاصة، وهو أمر يعلم الفرنسيون أنه ليس بالسهل، كما أنه تعلم في المرحلة الثانية في المدرسة الخاصة “فرانك بورجوا”، إحدى المدارس الراقية التي لا يجلس في مقاعدها إلا بعض أبناء النخبة. لكن في كل الأحوال، يبدو أن شعور المرارة الطبقي لم يفارق دارمانان أبدا، وفي سن الثانية عشرة، وبينما كان الرئيس اليساري فرانسوا ميتران على وشك الخروج من السياسة والتقاعد، كان دارمانان على وشك الدخول يمينيا. فقد حان وقت ارتداء البدلة التي يلبسها الأغنياء، وأن يقرر مصائر الناس الذين كانوا حتى الأمس القريب لا يلقون عليه السلام. وبعد ثماني سنوات، تحققت بعض أحلامه في عام 2002 عبر معهد الدراسات السياسية بمدينة ليل شمالي فرنسا.
لم تكن بداية دارمانان الدراسية موفقة، فقد أعاد السنة الأولى التي لم ينجح في تجاوزها، ليتخرج في عام 2007 بعد أن أمضى 5 سنوات في الدراسة بدلا من 4 سنوات. سمع الشاب نصيحة أحد السياسيين الذي قال له إنه إنْ أراد الالتحاق بالسياسة، فعليه أن يمارسها، لا أن يدرسها فقط، خاصة أن مستواه الدراسي لن يؤهله لاجتياز الدراسة في المدرسة الوطنية للإدارة، إحدى أرفع مدارس الإدارة العامة في العالم.
استجاب دارمانان للنصيحة، فقد صادف التحاقه بالمؤسسة التعليمية تأسيس حزب التجمع من أجل الحركة الشعبية عن طريق الرئيس الفرنسي جاك شيراك. تزعم دارمانان تنظيما شبابيا للحزب، ودخل في اعتراك شديد مع القوى اليسارية كان فيها رأس الحربة مع جمع من الزملاء المقربين، ممن سيكون لهم أدوار بعدها بسنوات في ديوانه الوزاري.
يمكن القول إن سنوات الدراسة والسياسة الأولى علّمت دارمانان كيف يرتدي البدلة التي يلبسها الأغنياء كما أراد، لكنه لم يتعلم كيف يرتدي ربطة العنق، بمعنى أنه لم يستطع التخلي عن الخطاب الشعبوي الذي يدغدغ به عواطف الناس، ويختزل القضايا المعقدة في حلول تبسيطية تتعلق بالهوية والدين. ولذلك شكَّل اليمين الجمهوري أو الكلاسيكي -كما يحلو لبعض المحللين تسميته- التيار الأكثر ملاءمة لطموحات دارمانان، وتحديدا حزب الاتحاد من أجل الحركة الشعبية المسمى الآن حزب الجمهوريين.
يُشكِّل هذا الحزب ما يمكن اعتباره تيار الدولة. فرغم عراقة اليسار الفرنسي، فإنه لم يحكم البلاد إلا مع رئيسين: فرانسوا ميتيران (1981ـ1995)، وفرانسوا هولاند (2012ـ2017)، ما عدا ذلك، خضعت فرنسا لليمين الجمهوري الذي ينشط في مساحة أيديولوجية كبيرة، تجعله يقترب من اليمين المتطرف في الكثير من الأفكار دون التحالف معه، كما يتقارب أحيانا من بعض أفكار اليسار مع الإبقاء على مساحة واضحة من الاختلاف. لذلك كان هذا التيار مناسبا جدا لدارمانان، إذ يتيح له العزف على أوتار عدّة، والرقص على حبائل السياسة المتعامدة.
وعلى إحدى درجات سلم صعوده الوظيفي، كان التقاؤه بالنائب البرلماني “كريستيان فانيست” نقطة ارتكاز مفصلية في حياته، وذلك أثناء عمله في مكتبه ضمن فترة تدريبية إلزامية بوصفها أحد شروط إتمام الدراسة العملية.
كان فانيست أحد أهم السياسيين حينها في اليمين الجمهوري، ويمكن تصنيفه اليوم بسهولة كبيرة بأنه يحمل أفكار اليمين المتطرف، فقد أكد مؤخرا وغير مرة دعمه لحزب لوبين، كما دعا للتصويت لها في الانتخابات الرئاسية عام 2017. بعد نهاية الفترة التدريبية، سيكون لفانيست دور كبير في دفع دارمانان سياسيا.
تبدو هذه الفترة من حياة دارمانان كما لو كانت مقتبسة من الأساطير الإغريقية، في انعطافة مثيرة أطاح فيها دارمانان بأبيه الروحي ليحل محله. ففي 2013، وقع فانيست في المحظور حينما أدلى بتصريح ضد المثليين. وقضية المثلية أصبحت منذ وقت الخط الأحمر الجديد الذي اختطته فرنسا لنفسها، وتأكد أكثر بعد اعتمادها قانونية الزواج المثلي في مايو/أيار 2013. وقد عقَّد هذا التصريح الموقف السياسي لفانسيت، فلم يعد بإمكان الحزب ترشيحه مرة أخرى في دائرة توركوان، الذي كان ممثلا لها طيلة عقد من الزمان. حينها توجهت الكاميرا إلى مساعده الشاب دارمانان الذي رفع يده مشوحا بالاستنكار والاعتراض، متحدثا عن فانيست: “لا يمكننا أن نعض اليد التي أطعمتنا”.
لكن خلال عشرة أيام فحسب، لم يكن دارمانان مستعدا فقط لعض اليد، بل في حركة تبدو مستمدة من الإله الإغريقي زيوس الذي قتل أباه ليحكم بدلا منه، أقدم الرجل على الترشح في دائرة فانيست، وكانت المفاجأة أنه نجح رغم حظوظه القليلة، بعد أن أقنع الناخبين بأن المرشحة اليسارية زينة الدحماني التي ترشحت مقابله ستجعل من المدينة الصغيرة مرتعا للإسلاميين، وأرضا خصبة لبناء المساجد وإقامة المآذن، وكان ذلك مقنعا للفرنسيين في الدائرة.
في البرلمان، تطرف دارمانان أكثر وألقى بثقله خلف أقصى اليمين، واتخذ مواقف شديدة الحِدَّة ضد قضايا الهجرة واللاجئين، والهوية والدين. وبعد أن أزاح أباه السياسي فانيست، بحث دارمانان عن ركن آخر يأوي إليه. هنا وجد نيكولا ساركوزي، الرئيس الذي خسر في العام السابق 2012 الانتخابات الرئاسية أمام فرانسوا هولاند.
قاد دارمانان حملة ساركوزي في الانتخابات التمهيدية في عام 2014، لكنه فشل فيها لصالح فرانسوا فيون، الذي كان مرشحا قويا للرئاسة قبل أن تطيح به قضية فساد هزت الرأي العام، ليصبح المرشح الأقرب لرئاسة الجمهورية الفرنسية شابا مغمورا كان وزيرا لدى فرانسوا هولاند، اسمه إيمانويل ماكرون.
ماكرون ليس الدواء
خلال حملته الانتخابية، اعتبر ماكرون، الذي كان أقل تأثرا بلوثة البراغماتية اليمينية، أن الاستعمار كان جريمة ضد الإنسانية. لكن دارمانان رد عليه قائلا: “عار على ماكرون أن يقدح في فرنسا أمام العالم، لقد بصق على قبور القناصة والمساعدين والحركي الذين ماتوا من أجل فرنسا التي يحبون”.
وفي مقال له بجريدة “لوبينيون” وصف دارمانان المرشح الرئاسي ماكرون بالشعبوي الأنيق، مضيفا: “إن ماكرون ليس الدواء لهذا البلد المريض، بل على العكس، سيكون السم الذي يُجهز عليه”.
بعد هذه الرحلة، نأتي إلى السؤال الأهم: لماذا يختار شخص ينحدر من أصول عربية أن يتبنّى هذا الخطاب المُعادي لثقافته وأصوله؟ وإذا كان دارمانان قد عانى هو وأجداده من تنمر اليمين وتنكّر الجمهورية لخدماتهم، فما الذي جذبه إلى سوط جلّاده؟
يقول خبراء علم النفس إن جانبا من تحليل مثل هذه المواقف يمكن فهمه من خلال مفهوم كراهية الذات، وهي ظاهرة شائعة لدى بعض المُهاجرين بعد استقرارهم في الأوطان الجديدة، حيث يشعرون كما لو أنهم يريدون الانسلاخ عن جلودهم القديمة وأن يستبدلوا بها جلودا جديدة، جلود البيض المتفوّقين، منبهرين بفوقيّتهم وهيمنتهم. وعندما يحدث ذلك، قد يجد بعض العوض عن شعور الدونية والضآلة اللذين يتخللانه.
لذلك يمكن أن يكون الحل الذي رآه دارمانان لدفع التناقض والعطب الأخلاقي والشعور بالحرج من فشله في أن يصبح جزائريا أصيلا أن يقرر أن يكون فرنسيا أصيلا، وكأنه يقول في قرارة نفسه إن كان هذا العار التاريخي لا يُمكن تصحيحه، فلماذا لا أكون فرنسيا كما ينبغي للفرنسي أن يكون إذن؟ هذه هي الإجابة التي يقدّمها دارمانان لنفسه ولجدّه من قبل، إنها محاولة لتغيير المستقبل حين يستحيل تغيير الماضي.
أما الحاضر، فقد أدرك دارمانان أن تأكيد مكانه بصفته فرنسيا أصيلا ليس كافيا للالتحاق بالطبقة السياسية الممتازة، فإلى جانب ذلك، عليه أن يلزم فنون المراوغة والرقص على التناقضات. بالتالي، ليس مستغربا أن يتراجع عن هجومه على ماكرون بمجرد أن أُتيحت له فرصة العمل معه. حذف دارمانان معظم تصريحاته المعارضة لماكرون، والكثير من التغريدات التي كانت تصفه بالساذج الذي لا يملك القدرة على القيادة. كل ذلك لأنه تلقى في مايو/أيار 2017، وبعد نجاح ماكرون في هزيمة مارين لوبان في الانتخابات الرئاسية، اتصالا من “إيدوار فيليب”، رئيس الوزراء الذي ترك الجمهوريين هو الآخر وقفز لمركب التيار الماكروني الذي كان في طور التشكل. خلال تلك الأمسية دخل ابن الحركي دارمانان إلى قصر “ماتينيون” بوصفه مناضلا في التيار الجمهوري اليميني، لكنه خرج من القصر نفسه بمهمة جديدة، لقد أصبح وزيرا للاقتصاد!
كان قبول هذه الحقيبة الوزارية في حكومة ماكرون اليسارية يعني خيانة حزب الجمهوريين، لكن هذه الخيانة السياسية ليست إلا خطوة في سلم الترقي السياسي. الأمر وضّحه المحلل النفسي جيرارد ميلر، الذي قال في تصريح صحفي إن “دارمانان لا يرى أي إشكال فيما قام به، فهو يرى أن كل ما يقوم به مبرر أخلاقيا، والتبرير هو أن هذا الأمر (ويعني به المراوغة السياسية) تضمن له المُضيّ بعيدا، إلى أبعد نقطة”.
مع وصوله إلى الوزارة، ستبدأ العواصف بالإحاطة بدارمانان، وسيكون الأرشيف الأسود دائما هو البطل. ففي يونيو/حزيران 2017، ظهرت للعلن ادعاءات أخلاقية ضد دارمانان تتهمه بإساءة استخدام السلطة، ثم انتقلت تلك القضايا إلى المحاكم، لكنها ظلَّت عالقة إلى أن أُغلقت أو بُرِّئ منها في محاكم أولية، ولا يزال بعضها قيد النظر. اللافت أن دارمانان قد ترقى خلال ذلك ليصبح وزيرا للداخلية مسؤولا عن حماية كل المقيمين على الأراضي الفرنسية، رجالا ونساء.
لكن قبل أشهر من توليه منصب وزارة الداخلية، في أكتوبر/تشرين الأول 2019، بعد خمسة أيام من حادث هجوم على ولاية الأمن في باريس، كان وزير الداخلية السابق كريستوف كاستانير يتحدث أمام لجنة مكلفة من طرف البرلمان للتحقيق في الحادث الذي كان ينظر إليه البعض باعتباره هجوما إرهابيا. سيأتي هنا السؤال المهم، الذي سيتفنَّن وزير الداخلية الفرنسي السابق في الإجابة عنه: كيف يمكننا تحديد الإرهابي؟ بالنسبة لكاستانير كان الأمر في غاية البساطة، إنه ذلك المسلم المُلتحي، ويصبح أكثر تدينا خلال شهر رمضان، ولا يُقبِّل النساء.
سيستلم دارمانان الحقيبة نفسها التي كان يحملها كاستانير في جو يهيج بالإسلاموفوبيا والتضييق على المسلمين، ولن يكون أقل حِدَّة في التعامل مع هذه القضايا، بل سيستلهم من تجربة شيخه نيكولا ساركوزي، الذي عُرف في فترته حين كان شرطي فرنسا الأول بوصفه أحد مهندسي الإسلاموفوبيا في البلاد، وصاغ الكثير من المشاريع التي أرادت فرْنَسَة الإسلام.
ومع ذلك، فقد لا يكون دارمانان مراوغا في تبنّيه مقولات الإسلاموفوبيا وتأثره بأنبياء الفاشية الفرنسيين، إذ لا يمكننا أن نستبعد اقتناع دارمانان الجادّ بالأفكار اليمينية في فرنسا، فمن الشائع لدى المقهورين والمُضطّهدين من أمثال دارمانان أن يعتنقوا قناعات ومبادئ الجماعات القاهرة والأشخاص المُتفوّقين حيالهم، وهو ما يُسمّى بالقهر المستورد إلى الذات، أي إن بعض الأفراد حين يتعرّضون لفترة طويلة من الإهانات أو المقولات التي تُقلِّل من شأنهم ومن شأن أصولهم وثقافتهم، قد يقتنعون بهذه الأفكار لحلّ الصراع النفسي والتوتر الداخلي الذي تُسبِّبه مقاومة هذه الأفكار والتشبُّث بالقناعات القديمة. بالنسبة لدارمانان، سيتجلى ذلك أوضح ما يكون في علاقته بالإسلام والعلمانية الفرنسية.
“صداع في رأس الجمهورية، هكذا يمكننا توصيف الإسلام”.
جيرالد دارمانان
إذا كانت العلمانية في بعض تعريفاتها تعني فصل الدين عن المجال العام، فقد تحولت هي ذاتها إلى دين، وهذه هي طبيعة العلمانية الفرنسية، والتي تُسمى أيضًا باللائكية. وبوجه من الوجوه، يمكن اعتبار دارمانان امتدادا للمدرسة الفرنسية التي ترى أن الحفاظ على علمانية الدولة لا يكون إلا بالقضاء على أي تنوع أو تعدد يختلف مع بعض تفسيراتها، فهذه العلمانية لا تقبل إلا بنفسها وعبر مفسريها من اليمين المتطرف. ولهذا يصبح الدفاع عنها إضفاءً للمشروعية على الانتهاكات التي تُمارَس ضد بعض مكونات المجتمع الفرنسي، ولا أدلّ على ذلك من حالة الرقابة والمتابعة الأمنية التي تُمارَس ضد المسلمين، حيث تتمادى السلطات في سعيها للسيطرة وإعادة تنظيم شؤونهم الدينية بما يوافق هوى اليمين.
وقد وصل هذا التمادي إلى منتهاه في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1997، كان ذلك خلال حفل حضرته طوائف دينية مختلفة بمدينة ستراسبورغ، وطرح فيه وزير الداخلية الفرنسي حينها “جون بيير شوفينمون” فكرة تأسيس جهاز يُعنى بدراسة الإسلام وتعريفه بشكل أفضل في الأوساط الشعبية الفرنسية. بعد هذه المناسبة بنحو 4 سنوات، في 10 إبريل/نيسان 2003، اعتبر نيكولا ساركوزي، وزير الداخلية الفرنسي في عهد جاك شيراك، أن المسلمين مطالبون بإبداء رغبتهم في أن يكونوا فرنسيين، داعيا المسلمين والمنظمات الإسلامية للتواصل مع الدولة والنقاش حول المضامين الدينية وتكوين أئمة يخاطبون الشباب بلغة فرنسية ويحترمون الثقافة الفرنسية، بعبارة أخرى، تفصيل إسلام على مقاس دهاقنة اليمين المتطرف في فرنسا.
في 28 مايو/أيار من السنة نفسها، أعلن ساركوزي تأسيس المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، أول مؤسسة شبه رسمية تتدخل لتنظيم الحياة الدينية للمسلمين. كان لهذا المجلس مجموعة مهام تتمحور حول تدريب الأئمة والخطباء، وتنظيم الطعام الحلال، ورعاية المسلمين في السجون، والملتحقين بالخدمة بالجيش الفرنسي، علاوة على تحديد تواريخ المناسبات الدينية كشهر رمضان وعيد الفطر وعيد الأضحى. وفات على ساركوزي وغيره أن الإسلام ديانة غير مؤسسية، فلا توجد هيئة كهنوتية تملك حصرا تمثيل الإسلام داخل فرنسا أو خارجها. وهذه البديهية يريد أن يقاومها اليمين عبر صناعة هيئة كهنوتية جمهورية عليا تتسلط على المسلمين.
أراد دارمانان المرور من الجحر الذي دخله ساركوزي، على المنهاج والمنوال نفسه، مقتفيا أثره، وعازما على تجاوزه. فقد كان يملك الرغبة نفسها في محاصرة الإسلام تحت دعوى محاربة الإسلام السياسي. يصر دارمانان في خطاباته العامة على أن الأمر يتعلق بالدين عموما، لا الإسلام فحسب، فهو يقول إن فرنسا لا ترفض الدين، ولا ترفض التدين، لكنها تفرض احترام قوانينها الجمهورية. لكنَّ مصدرا تحدث إلينا من ممثلي الجمعيات الإسلامية التي شاركت في لقاءات دارمانان لاحقا، أوضح أنه أخبرهم بأن القوانين التي يحاول سنّها فيما يتعلق بالدين لا تستهدف التضييق على اليهود أو المسيحيين، بل التعامل مع الإسلام والمتطرفين المسلمين فقط.
يدّعي دارمانان أن المشكلة ما بين فرنسا والإسلام سوء تفاهم، وذلك للعديد من الأسباب، منها أن الإسلام ديانة جديدة على الأراضي الفرنسية. وهذا غير دقيق، فقد حضر الإسلام في فرنسا منذ وقت بعيد، إذ تشير الدلائل إلى علاقات تجارية بين العالم الإسلامي وفرنسا بداية من القرن الثالث عشر، وإن كان التبادل الثقافي والتجاري شهد ذروته في إيطاليا وإسبانيا، لكن حضور الإسلام في فرنسا تكثف كثيرا بعد الحرب العالمية الثانية. واتسع حضور الإسلام بعد وصول الحركي المسلمين من الجزائر، ثم بعد ذلك الهجرة الاقتصادية ولمّ الشمل الذي سمح لأُسر المهاجرين بالقدوم إلى فرنسا. والوجود الحالي للمسلمين في فرنسا يُمثِّل بين 6-10% من السكان، ويمارس 40% منهم شعائر دينهم، حسب الإحصائيات، أي إنهم أصبحوا مكونا رئيسيا داخل المجتمع الفرنسي، ومواطنين كاملي الأهلية لا ترتبط أحقيتهم في الحصول على حقوقهم بعمق جذورهم التاريخية في فرنسا، بل بحقوق المواطنة التي تضمنها لهم الجمهورية.
لكن دارمانان يتجاهل هذه الحقيقة، ويريد أن يستمر وصف المهاجرين عالقا بكل المسلمين، حيث يعقب أن الفرنسيين يجب ألا ينسوا الإشكال الكبير المسمى بالهجرة غير الشرعية. يقول دارمانان إن المهاجرين غير النظاميين يأتون في الغالب من دول مسلمة، المسلمون وحدهم، تقريبا، هم مَن يركبون الأمواج العاتية للقدوم إلى الأراضي الفرنسية العلمانية المقدسة.
ولا شك أن دارمانان يُعبِّر عن شريحة كبيرة من الفرنسيين، لا سيما حينما يقول إن الفرنسيين لا يعرفون الإسلام. فقد جاء في استطلاع رأي نشرته صحيفة “لوباريزيان” أن 63% من الفرنسيين يعترفون بأنهم لا يعرفون الإسلام، في حين يرى 93% منهم أن الكاثوليكية متناغمة مع الجمهورية، ويظن 81% منهم الشيء نفسه مع اليهودية، لكن 47% فقط من الفرنسيين يرون الإسلام متوائما مع قيم الجمهورية الفرنسية.
يقول دارمانان إن الحل لا يكمن في منع المسلمين من ممارسة دينهم، فهو أمر من شأنه أن يؤدي إلى حرب أهلية طاحنة على الأرض الفرنسية، بل إن الحل للتعامل مع الإسلام يكمن في وضع سلسلة قواعد مرحلية “تنتهي بإذابة هذا الدين في الجمهورية حتى نصل إلى الهدف المنشود: السلام الداخلي في فرنسا، مع احترام دائم وشديد لعلمانية الدولة، التي يجب ألا تتدخل في هذا الأمر”.
يقول دارمانان إن الفرنسيين يجب أن يصلوا إلى إسلام فرنسي وليس إسلاما يعيش في فرنسا، إسلام فرنسي يحترم الجمهورية ويضعها أولوية، بجمعيات فرنسية، وأئمة فرنسيين، وبنظرة فقهية فرنسية. وبتعبير دارمانان، فقد “آن الأوان لكي يطرق الإسلام باب أنوار الجمهورية!”.
وهناك تجربة مشابهة لذلك حدثت مع مواطني فرنسا من اليهود في أعقاب الثورة الفرنسية. فبعد عامين فقط من الثورة، وفي عام 1791، أعلن البرلمان الفرنسي منح اليهود حقوق المواطنة الكاملة، لتكون فرنسا أول دولة في أوروبا تقوم بذلك. ومع ما قام به الفرنسيون من تحرير لليهود، حسبما أطلقوا عليه (Emancipation)، لكن نابليون بونابارت لم يقتنع بأن اليهود قد اندمجوا بشكل كامل في المجتمع الفرنسي، فأصدر قرارات عام 1807 و1808 اشتهرت بعد ذلك باسم “الأوامر المخزية”، لتقييد أنشطة اليهود ودمجهم في المجتمع، وتنظيم الدين اليهودي لتعزيز ولاء أتباعه لفرنسا. لعل دارمانان يرى نفسه نابليون الجديد للتعامل مع المسلمين، فهل تتكرر المأساة من جديد؟
لتبسيط الفكرة، يريد دارمانان أن يقتصر إيمان المسلم على قلبه، مثلما كان جدّه موسى، يلبس كالبقية، يأكل كالبقية، يشرب كالبقية، ويحمل السلاح للدفاع عن الجمهورية حتى لو كان ذلك ضد بني وطنه وجلدته، لكن ما الخطوات للوصول إلى ذلك؟ هذا ما ستخبرنا به تحركات وزير الداخلية حينها، وأولها: الأكل الحلال.
صدمة الطعام الحلال
في أكتوبر/تشرين الأول 2020، وبعد أقل من ثلاثة أشهر من توليه وزارة الداخلية الفرنسية، خرج دارمانان بتصريح قال فيه إنه مصدوم من وجود ممرات في المتاجر الممتازة خاصة بمطابخ “الأقليات” كالأكل الحلال، معتبرا أن هذا الأمر يُشكِّل اللبنة الأولى لانعزال الأقليات عن المجتمع الفرنسي. ورغم الهجوم الكبير الذي تلقاه الوزير الجديد بهذا التصريح، ومع عدم تلقيه دعما من المقربين إليه مثل غابرييل عتال، رئيس الوزراء لاحقا، سيؤكد دارمانان تشبُّثه بهذه الفكرة. سيقول عتال في تصريح إن “الحديث عن طعام الأقليات في الأسواق الممتازة يجب أن يأتي بعد أن تحل فرنسا جميع مشكلاتها الحقيقية”. ستتوالى التصريحات والتعبيرات لدرجة دفعت دارمانان لتحديد عدوه بدقة متناهية ليصفه بأنه “الإرهاب الإسلامي السنّي حصرا”.
لم تأتِ تصريحات دارمانان الكثيرة، التي تستعصي على الحصر، دون وجود دافع سياسي حقيقي، فقد أتت في سياق أوسع عاشته فرنسا منذ وصول إيمانويل ماكرون الى رئاسة البلاد.
كانت فرنسا عبر تاريخ الجمهورية منقسمة سياسيا بين يمين ويسار، لكنها وجدت نفسها أمام خيارين مختلفين بداية من عام 2017. فمن ناحية، هناك اليمين المتطرف الذي لم يحقق إنجازا سياسيا منذ وصول جون ماري لوبان للدور الثاني من الانتخابات الرئاسية أمام جاك شيراك في عام 2002، وهو ما كان متوقعا بعد أن كان العالم لم يستوعب بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001. في عام 2017 سيجد الفرنسيون أنفسهم أمام خيارين اثنين أيضا، مارين لوبان، ابنة جون ماري، التي لعبت على وتر الأحداث الدموية التي عاشتها فرنسا في السنوات التي سبقت الانتخابات، وإيمانويل ماكرون، الذي لم يكن بالإمكان وضعه في خانة أيديولوجية واضحة إلا من حيث كونه وزيرا سابقا في حكومة فرانسوا هولاند، اليسارية، تجاوزا.
قدّم إيمانويل ماكرون نفسه للفرنسيين والطبقة السياسية بيمينها ويسارها على أنه ليس الاختيار المناسب لمواجهة اليمين المتطرف فحسب، بل الاختيار الوحيد الممكن والمطروح. ومنذ وصول الرئيس الفرنسي إلى الإليزيه، بدأ توازن القوى يشهد زلزالا حقيقيا، انتهى اليمين الجمهوري تماما بعد أن التحق جزء من قياداته بالتيار “الماكروني”، فيما ظل الجزء الثاني في حزب مرهق يعيش على إرثه المتهاوي. أما اليسار فقد عاش لحظات تشرذم وهبوط بعد فرانسوا هولاند الذي لم يكن رئيسا ناجحا، وهو ما دفعه لعدم الترشح أصلا لولاية ثانية. عمل ماكرون وفريقه على خنق أقصى اليمين حتى لا يتمدد سياسيا. هذا الخنق السياسي كان عبر تبنّي إيمانويل ماكرون عددا من الأفكار التي لا يمكن وصفها إلا بأنها تُمثِّل أقصى اليمين. ولم يكن هناك أفضل من يميني الحكومة الأول لقيادة هذه المعركة، ذاك الذي أتعب الفرنسيين من فرنسيته، جيرالد دارمانان.
كان الفرنسيون أمام مشهد غير مسبوق على التلفزيون الوطني يوم الخميس 11 فبراير/شباط 2021. شخص ما، من أصل جزائري مسلم، لم يكن الناس يعرفونه قبل سنوات قليلة مضت، يستعلي بفاشيته على فاشية عائلة لوبان، ويرى أنها ليست كفاية لإنقاذ فرنسا من المسلمين. كانت ملامح مارين لوبان تصرخ بالدهشة، عيناها جاحظتان من الصدمة، بعد أن سمعت، على الأرجح لأول مرة في حياتها، شخصا يقول لها إنها يجب أن تأخذ بعض الفيتامينات الفكرية لأنها أصبحت ضعيفة أكثر من اللازم، وقاسية أقل من المطلوب.
كان ذلك تعليق جيرالد دارمانان بعد أن قالت مارين لوبان إنها لا ترى أنه يجب محاربة الإسلام بوصفه ديانة، كونه دينا كباقي الديانات الأخرى، لديه الحق في الحضور في فرنسا، مضيفة أنها، كونها متشبثة بالتقاليد الفرنسية، لا ترى ضرورة التدخل في طريقة تنظيم الديانة الإسلامية في فرنسا. لكن الوزير قال نصا: “السيدة لوبان، وفي إطار رغبتها في نزع الشيطنة عن حزبها، أصبحت تقريبا تعيش في نوع من النعومة، يجب عليها أخذ بعض الفيتامينات. إنها تقول إنه لا يجب التدخل في تنظيم الديانات، ولا ترى أن الإسلام يُمثِّل مشكلة!”.
ولعل هذه إحدى المشكلات التي تثيرها ظاهرة دارمانان وأمثاله؛ إنها تحيل التجربة الديمقراطية من حكم الشعب إلى حكم الشعبوية. يعيدنا هذا إلى تحليل ممارسات بعض المهاجرين الذين يتبنّون هويات جديدة لإثبات شيء ما لأبناء وطنهم الجديد. فمَن ذا الذي يمكنه أن يشكك في وطنية دارمانان، إذا كان دارمانان نفسه يشكك في وطنية زعماء الفاشية الفرنسية التاريخيين؟
علقت صحيفة “لوموند” على هذه المناظرة التي أخذت طابع الكوميديا السياسية الهزلية بالقول: “هذا شيء لم نره من قبل، فعادة تُتهم قيادات أقصى اليمين بالتطرف والراديكالية، لكن السيد دارمانان اختار إستراتيجية مختلفة تماما، حيث أراد إظهار أنه أكثر انغلاقا وحزما من لوبان في محاربة الإسلام”. حققت مارين لوبان 41.45% في أصوات الانتخابات الرئاسية، وربما يعود ذلك في جزء منه إلى رؤية الفرنسيين لها باعتبارها أكثر وداعة من تيار دارمانان الصاعد. صحيح أنها لم تكن نسبة كافية للفوز، لكنها تظل نسبة كبيرة جدا، فقد حصلت على أكثر من 13 مليونا و288 ألف صوت. كان وزير داخلية ماكرون يلعب أيضا على وتر مهم، فقد كانت لوبان هي البديل الوحيد لماكرون، وما أراد دارمانان قوله لليمينيين: إنها ليست الخيار الأفضل.
لم يكن الرجل يتحدث من فراغ، فرغم الخلاف المفترض بين الطرفين، كانت لوبان قد أثنت على بعض كتابات دارمانان، معتبرة أنه يملك توصيفا دقيقا للإسلام السياسي، لكن لوبان نفسها لا يمكنها أن تنكر أبدا كل ما قام به دارمانان، حيث غيَّر تماما وجه تعامل الدولة الفرنسية مع الإسلام. لكن كيف حدث ذلك؟
العلمانية دين وشعائر
من المعروف عند أغلب المسلمين حضور الإسلام في المجال العام، وارتباطه بالعديد من الأنشطة الاجتماعية والثقافية بالإضافة إلى الشأن الديني، وأن كل هذه المظاهر لها تجلياتها الاجتماعية الملموسة التي تراها وتشعر بها الطوائف والجماعات من غير المسلمين. والإشكال أن العلمانية الفرنسية اللائكية تريد أن تهيمن وحدها على المجال العام، وترفض كل طقس أو شعيرة ترتبط بالمجتمع أو بحياة الناس الثقافية والمعيشية، وهذا يمس، عند المسلمين، بالكثير مما يؤمنون به. بمعنى أن المطلوب أكثر من الاندماج والتعايش المشترك، فالعلمانية الفرنسية لا تستهدف فقط منع المقدس، بل استبداله، لتصبح العلمانية نفسها دينا له شعائره وحضوره في كل جوانب الحياة، العام منها والشخصي. وبهذا المعنى، ترى أن جيرالد دارمانان أقرب ما يكون مبشرا بديانة اللائكية الفرنسية، وهو في هذا يتبع أستاذه نيكولا ساركوزي.
فساركوزي يرى العلمانية نظاما شاملا لكل مناحي الحياة، حتى إن من شأنه أن ينظم أصناف الأكل في طبق طعام الأطفال في المدارس. وقد استغل ماكرون بعضا من هوس دارمانان، الذي أراد أن يتفوق على ساركوزي، ليضرب الحضور الإسلامي في البلاد بيد وزير الداخلية، مع الحفاظ على صورته المعتدلة رئيسا أمام الجمهور. هذا تماما ما حدث بعد هجوم طوفان الأقصى يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، حينما كان يضرب بيد من حديد كل المتعاطفين مع فلسطين وغزة، وفيما كان ماكرون هو الداعم لهذه الخطوات من خلف الستار، كان يخرج بين الفينة والأخرى ليصالح الجميع من يهود ومسلمين.
وفي هذا السياق، ورغم الوجه الاعتذاري لماكرون، لا ننسى أن اختياره لدارمانان يصادف هوى داخل نفسه، فقبيل استفحال جائحة كورونا، كان مشغولا بحماية العلمانية ومواجهة الإسلام، قبل حتى أن ينشغل بمحاربة الوباء. حينها أعلن ماكرون الحرب على ما سمَّاه “الانعزالية الإسلامية”، ويعني ذلك انعزال الأقلية المسلمة التي تحتكم في حياتها العملية والسياسية والدينية إلى قوانين الشريعة الإسلامية، واضعةً إياها فوق الدستور الفرنسي ومبادئ الجمهورية.
أوقف الوباء الحياة الاجتماعية حول العالم، لكنه لم يؤجل حرب ماكرون ضد الحضور الإسلامي. ففي أكتوبر/تشرين الأول 2020، خاطب ماكرون الفرنسيين ليقدم مشروع قانون محاربة التطرف و”الانعزالية الإسلامية” إلى مجلس الدولة يوم 9 ديسمبر/كانون الأول من السنة نفسها.
قبل صدور هذا القانون، طالب ماكرون وزير داخليته الأسبق، “غيرارد كولومب”، بتكثيف مراقبته لضواحي المدن، حيث تتركَّز الجاليات الإسلامية، واختراقها من أجل التحقيق في وجود شبكات جهادية نشطة داخل فرنسا وخارجها. بدأت هذه الخطوات بـ15 ضاحية، مع تكتم حكومي كبير على هذه الإستراتيجية في انتظار قطف ثمارها. رحل كولومب وجاء بعده كريستوف كاستانير، الذي كان يعمل بتعليمات من الإليزيه على استصدار قانون لمراقبة الفعاليات الإسلامية في الجمعيات المختلفة، على أن يكون هذا القانون قويا وصارما دون أن يتصادم مع علمانية الدولة، أو حرية الاعتقاد، تلك المعادلة المستحيلة.
سيدعم دارمانان المتحمس صدور قانون الانعزالية الذي تم إقراره في 24 أغسطس/آب 2023. وباختصار غير مُخل، يعطي القانون المسؤولين الفرنسيين الحق في التدخل في كل ما من شأنه المس بعلمانية الدولة، وهو تعريف فضفاض للغاية يعني إطلاق يد الدولة التي تستغل ضبابية التعريفات والقوانين، بل وتحديد مفهوم العلمانية أصلا الذي يختلف في تعريفه الفرنسيون أنفسهم.
تتضح خطورة القانون وعبثيته في تصريحات الوزراء والبرلمانيين، فمثلا، أعلنت وزيرة المواطنة السابقة “مارلين شيابا” ووزير التعليم السابق “ميشيل بلانكير” عن فتح تحقيقات في الشهادات الطبية التي يُقدِّمها بعض الآباء المسلمون لمنع بناتهم من حضور دروس السباحة بدعوى معاناتهن من الحساسية ضد المواد المستخدمة في مياه المسابح، وذلك حتى لا ترتدي هؤلاء الفتيات أردية سباحة كاشفة، أو كمنع التعليم المنزلي لأن هناك نساء منتقبات يجمعن الأطفال لتعليمهم القرآن.
استغل دارمانان بحبوحة القانون وغموض تفاصيله وتحرك في ظله لتحقيق أهدافه، وتعززت هذه الفرصة بعد مقتل الأستاذ الفرنسي صامويل باتي في أكتوبر/تشرين الأول 2020 عقب مشاركته رسوما مسيئة للإسلام خلال حصة دراسية. أكد دارمانان أن الوقت قد حان لوضع حد للجالية الإسلامية دينيا وقانونيا، وبدأت تحركاته بإغلاق أهم جمعيتين إسلاميتين في البلاد، وهما جمعية محاربة الإسلاموفوبيا بفرنسا، وجمعية بركة سيتي الخيرية، حيث أُغلقتا بدعوى التشجيع على الانعزالية وتمرير رسائل الكراهية والحضِّ على الإرهاب.
اعتبرت الحكومة الفرنسية أن جمعية محاربة الإسلاموفوبيا جمعية إرهابية، إذ تدّعي الحكومة أن الجمعية التي تنشط في مساعدة المسلمين ممن يتعرَّضون للاضطهاد على اتخاذ الخطوات القانونية اللازمة لحماية أنفسهم تنشر أفكارا خاطئة حول فرنسا، وتقنع الضحايا بأنهم يعيشون في بلد عنصري يقوم بمعاداتهم بسبب اختياراتهم الدينية. وبحسب تصريحات حكومية، فإن مَن يقفون وراء هذه المؤسسة يتبنّون إسلاما ثوريا ويرفضون الديمقراطية والمثلية الجنسية!
حصد دارمانان نتائج تحركاته، فقد أعلن في ديسمبر/كانون الأول 2020 أن وزارته أجرت أكثر من 17 ألف عملية مراقبة نجم عنها إغلاق 394 مركزا إسلاميا ما بين مساجد وغيرها. لكن موقع “ميديا بارت” شكك في صدقية الأرقام الحكومية، بعد أن نشر تقريرا قال فيه إن وزارة الداخلية تحاول حجب الحقيقة من خلال حجب التفاصيل أو أسماء المساجد التي أُغلقت والسبب في إغلاقها. فبحسب التحقيق الصحفي، أُغلقت العديد من المراكز الإسلامية مؤقتا بسبب مراقبات روتينية نتيجة عدم التزامها بقواعد السلامة من الحرائق أو قواعد الصحة العامة المرتبطة بجائحة كورونا والتباعد الاجتماعي.
استخدم دارمانان هذا التلفيق الرقمي ليدغدغ عواطف اليمين الذي ينتظر منه الكثير تجاه المسلمين، فضلا عن أن دارمانان نفسه لديه هوس بالمساجد وأئمتها، إذ يعتبر أن السيطرة عليها تعني التحكم في الخطاب الديني في البلاد. فمثلا، دعمت الحكومة الفرنسية مسجد باريس الكبير في إنشاء “معهد الغزالي” لتدريب الأئمة، وفي سبتمبر/أيلول 2015، في عهد نيكولا ساركوزي، وقَّعت فرنسا اتفاقية مع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية بهدف تدريب 50 إماما لإعداد الأئمة المرشدين والمرشدات، على أن يكون إتمام المنهج الممتد لثلاث سنوات بدراسة جامعية حول العلمانية لشرح مكانة الدين في فرنسا، ووقَّعت اتفاقية مشابهة أيضا مع الجزائر بعد شهر واحد. لكن جاء قانون الانعزالية الإسلامية ليضع حدًّا لكل هذا، قالها دارمنان في كتاباته: “يجب ألا يكون هنالك مكان للإسلام القنصلي”، يريد أن فرنسا لا يمكنها السماح بالاعتماد على أئمة يتلقون رواتبهم من دول أخرى.
أكمل دارمانان جهوده بفرض وثيقة موحدة على الجمعيات والمنظمات الإسلامية، وثيقة سرية نشر موقع “ميديا بارت” بعض فصولها، التي أصر فيها وزير الداخلية السابق أن يبث الأئمة بعض الخطابات الممجدة لفرنسا على المنابر، وإخبار المسلمين بحياد الدولة وعدم تبنّيها لأية سياسات عنصرية أو “إسلاموفوبية”، وأن كل ما يقال إشاعات وتضليل يستهدف لُحمة المجتمع الفرنسي.
ولا يزال جيرالد دارمانان يحاول خلق إسلام أشبه بالمسيحية الكاثوليكية. فقد أعلن في صيف 2024 ضرورة إنشاء منصب “الإمام الأكبر”، بطريقة قريبة من “بابا الإسلام في فرنسا”، حتى يكون القطعة التي تحرك كل شيء وأي شيء يتعلق بالإسلام.
ورغم كل هذه الإمكانيات القانونية الكبيرة التي يمنحها قانون الانعزالية، فإن السيطرة الكاملة على الحياة الإسلامية في فرنسا ظلَّت صعبة للغاية. وعاد دارمانان مرة أخرى يُلقي اللوم على المسلمين بسبب فشل مشروعه الكبير، ففي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وخلال تكريم الجنود المسلمين الذين ضحّوا بحياتهم للدفاع عن فرنسا خلال الحرب العالمية الأولى، لم يُخفِ دارمانان لومه الكبير عن القائمين الدينيين، معتبرا أن عدم سماع صوتهم راجع لأنهم ما زالوا يعرّفون أنفسهم بجنسياتهم الأولى، ولا يعملون على الانضمام إلى مشروع جامع كإسلام فرنسا.
عينٌ على كرسي الرئاسة
في إحدى مقابلاته الصحفية في مارس/آذار 2023، قال دارمانان منتقدا اليسار: “إن فرنسا لن تستسلم أمام الإرهاب الفكري”. لا يمكن اعتبار ما قاله دارمانان أمرا طارئا أو اعتباطيا، فهو مصطلح استخدمه جون ماري لوبان، ونيكولا ساركوزي، وغيرهما من أطياف اليمين. في العام نفسه، هدد الوزير بحجب الدعم الحكومي عن مؤسسة رابطة حقوق الإنسان، اليهودية الحقوقية العريقة في فرنسا، التي لم يتوقف دعمها سوى إبان فترة الاحتلال النازي لفرنسا خلال الحرب العالمية الثانية.
لكن ما الرابط بين كل مواقف دارمانان؟
يمكن النظر إلى مسيرة دارمانان ومواقفه المتناقضة من خلال رؤيته بوصفه سياسيا لا حد لطموحه. لذلك فلن نستغرب ما نُقل عنه بعد عرض توليه وزارة الاقتصاد، حيث قال: “مَن يرفض أن يصبح وزيرا في الرابعة والثلاثين من عمره؟”، رغم هجومه الشرس على ماكرون الذي عرض عليه الوزارة، وإعلانه مرارا اختلافه مع سياساته ونهجه وشخصيته!
وعندما سأله صحفي عام 2015 عما إذا كان يطمح أن يكون رئيسا لفرنسا، أجاب دارمانان قائلا: “ومَن مِن فتيان ترانيم الكنيسة لم يحلم يوما أن يصبح بابا للفاتيكان؟”. استطاع دارمانان أن يحشد دعما قلّما يحصل عليه سياسي مثله، فقد أوردت تقارير متعددة كيف أن برنارد أرنو، رجل الأعمال الذي يتبادل مع الأميركي إيلون ماسك موقع أغنى رجل في العالم، حاول أن يدفع ماكرون لتعيينه رئيسا للوزراء.
كذلك لا يمكن القول إن دارمانان رجل شعبوي بلا إستراتيجية واضحة. فقد حاول دارمانان أن يعلن عن هويته السياسية بالقول إنه يميل إلى يمين شارل ديغول، وإن إجابته على ما يسميه “الإرهاب الفكري” لليسار ستكون بالديمقراطية الشعبوية، من خلال العودة إلى الشعب، وتأكيد سطوة الدولة، وإعطاء الأهمية اللازمة لسؤال الهوية. ورغم تأكيده المستمر أنه يعرف الطبقة الكادحة، إذ إنه أحد أفرادها، لا تبدو علاقته بمحدودي الدخل من الفرنسيين ذات أولوية في سياساته، فعلاقته بأثرى أثرياء فرنسا والعالم، وتأكيده سطوة الدولة، وكذلك تركيزه على قضايا الهوية والدين، كل ذلك يشغل مواقع أعلى كثيرا على سلم أولوياته، فهو بهذا المعنى نبي للفاشية الفرنسية الجديدة، وفرعون يريد أن يكون على رأس الدولة، ويريد للدولة أن تكون على رقاب الناس.
وفي الوقت الذي أعاد فيه ماكرون تشكيل حكومته بعد انتخابات مبكرة هذا الصيف، حاول فيها حشد اليسار لتحجيم اليمين المتطرف، احتفظ الرئيس بدارمانان وزيرا للداخلية لبعض الوقت. لكن في سبتمبر/أيلول 2024، استقال دارمانان من حكومة ماكرون بعد أسابيع من انتهاء دورة الألعاب الأولمبية في باريس والتي اعتبرها وأنصاره مثلت إنجازًا كبيرًا لوزارة الداخلية الفرنسية. قال دارمانان قبل استقالته إنه يعكف على صياغة مشروع جديد لمستقبله ومستقبل فرنسا، وعزز ذلك إعادة انتخابه في البرلمان بأغلبية في دائرته وبفارق كبير عن منافسه. تبدو مسيرة دارمانان اليوم مستمرة في طريقها، ولعله لا يرسم بسياساته وأفكاره خط ماكرون فيما تبقى من فترة حكمه، ولكنه لا شك سيؤثر على سياسات فرنسا لفترة طويلة قادمة، فترة يحلم دارمانان أن تأتي وقد جلس هو شخصيا على كرسي الحكم، ليكون حاكم فرنسا، في سيناريو لم يحلم به جدّه موسى، الذي كان أقصى طموحه أن يعلق صورة شارل ديغول على جدران مطعمه المتواضع بعد مقابلة عابرة.