مدينة الطينة- حتى وقت قريب، كانت مدينة الطينة الواقعة على حدود السودان مع تشاد تُعرف بنشاطها التجاري الحيوي، حيث كانت تشكل نقطة جمركية إستراتيجية في إقليم دارفور، وكانت شاحنات السلع تتدفق داخل الأسواق المحلية، وكان موسم الحصاد يجلب الانتعاش للمنطقة التي اعتمدت على الزراعة وتجارة المحاصيل الأساسية.
ولكن الصورة انقلبت رأسا على عقب؛ فالمدينة أصبحت اليوم أحد أبرز مراكز النزوح في السودان، بعد أن اجتاحتها موجات الفارين من هجمات قوات الدعم السريع. ومع كل يوم، تزداد معاناة الآلاف ممن وجدوا في الطينة ملاذا أخيرا، لكنها أصبحت مثقلة بما يفوق قدرتها على الاحتمال، وسط غياب شبه كامل للدعم الدولي.
تقول زينب الطاهر، التي وصلت إلى الطينة قبل شهرين للجزيرة نت “ليس لدينا مأوى سوى هياكل مؤقتة لا تكاد تحمينا من المطر والحرارة. نفتقر للطعام والملابس، ولا توجد بطانيات أو حتى صرف صحي مناسب”.
زينب كانت تسكن مخيم زمزم قرب الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور، الذي اجتاحته قوات الدعم السريع، متسببة في مقتل المئات ودفع الآلاف نحو الطينة.
وفي مواجهة هذا الانهيار، برزت مبادرات مجتمعية محلية تُعرف بـ”التكايا”، تعمل على سد رمق الجوع في غياب المنظمات الإنسانية.
رمز للبقاء
وتقول سمية كتر، وهي ناشطة ومتطوعة في أحد المطابخ الجماعية، للجزيرة نت “نطهو العدس والعصيدة يوميا في قدور كبيرة. أصبحت هذه الوجبة رمزا للبقاء على قيد الحياة”، مؤكدة أن التكايا باتت مساحة لحماية الأطفال من الشوارع والأمهات من الانهيار.
وتحولت الطينة التي تبعد نحو 340 كيلومترا غرب مدينة الفاشر في الآونة الأخيرة إلى نموذج للمقاومة المجتمعية في وجه المجاعة والخوف، حيث يخطّ الناس قصص بقائهم من قلب الألم، على أمل ألا يُطوى هذا الفصل من المعاناة دون أن يراه العالم.
وفي خضم هذه المشاهد القاسية، يسطع اسم محمد صالح تقل، عضو غرفة طوارئ المدينة، كأحد أبرز الشخصيات المدنية التي تخوض معركة إنسانية بصمت وتماسك.
وفي حديثه للجزيرة نت، يقول تقل إنهم “أنشؤوا 8 مطابخ جماعية، لكن أغلبها توقف نتيجة لنقص التمويل، ولم يبقَ سوى مطبخين فقط على قيد الحياة”، مؤكدا أن دخول فصل الخريف زاد من تعقيد الوضع؛ فالأمطار والسيول تسببت في قطع الطرق مما حال دون وصول الإمدادات والمساعدات الغذائية، وعزل المدينة عن محيطها.
ويوجه تقل نداءات متواصلة عبر شبكات الإعلام المحلية والدولية، مطالبا بضرورة الاستجابة العاجلة قبل أن يتفاقم الوضع إلى مستويات كارثية. وقد نجحت تصريحاته في تسليط الضوء على الأزمة، وحشد تضامن دولي متواضع لكنه مؤثر.
وبحسب إحصاءات غير رسمية، فإن أكثر من 9 آلاف نازح يتلقون وجبات يومية من هذه التكايا، رغم أن التمويل يعتمد كليا على تبرعات فردية يجمعها شباب الغرفة عبر تطبيقات المراسلة وشبكات المغتربين السودانيين بجانب الدعم المحدود المقدم من مجلس غرف طوارئ شمال دارفور.
ويواجه القائمون على هذه المطابخ تحديات مضنية، تبدأ بانقطاع التمويل والكهرباء ولا تنتهي بانعدام وسائل التواصل، بينما تحاول “الطينة” أن تحصّن نازحيها بجهود ذاتية صامدة.
ويوضح تقل أن المطابخ أصبحت عاجزة عن استقبال المواد الأساسية، حتى العدس بدأ ينفد، والماء لا يصل بشكل منتظم، محذرا من أن توقف عملها سيؤدي إلى مجاعة مؤكدة في محيط المدينة خلال أيام.
وفي ظل هذه التحديات، تتزايد الاستغاثات المحلية عبر منصات التواصل، في حين يواصل شباب الغرفة حملة بعنوان “العدس حياة” تهدف إلى جمع التموين من مناطق مجاورة، رغم تعقيدات النقل ووعورة الطرق.
جهود متعددة
ويعود تاريخ الاستجابة الإنسانية في الطينة إلى الأيام الأولى للحرب في أبريل/نيسان 2023، حيث بدأت غرفة الطوارئ في تنظيم عمليات إجلاء منظمة للأسر المتعففة من الفاشر إلى الطينة، مرورا عبر طرق ترابية على متن شاحنات متهالكة.
ويتحدث محمد يوسف مسؤول الدعم اللوجستي للغرفة، عن تلك البدايات قائلا للجزيرة نت “قبل أن نبدأ طهو الطعام، بدأنا بإخراج الناس من تحت القصف، ونقلنا عشرات العائلات إلى أمان نسبي داخل الطينة، ثم أسسنا غرفة طوارئ في مخيم كرياري بشرق تشاد لاستقبال النازحين الذين لم يجدوا مأوى”.
ويضيف يوسف أن الغرفة دعمت عمليات علاج أولية داخل المدينة، رغم غياب الأدوية والتجهيزات، وساهمت في توفير المواد الأساسية للمصابين والحوامل.
بدوره، يقول ناشط محلي إن “التكية لم تعد مجرد قدر يغلي، بل أصبحت معملا اجتماعيا يعيد تكوين العلاقة بين الإنسان ومدينته، فقد تحوّلت إلى فضاء يجمع الأمهات النازحات، ويرسم البهجة على وجوه الأطفال الذين فقدوا مدارسهم، ويقدّم الدعم النفسي للمرضى عبر جلسات جماعية بسيطة تشرف عليها متطوعات من خلفيات تربوية”.
وتتحدث سهبية صالح، وهي إحدى النازحات من مدينة الفاشر، عن تجربتها في التكية قائلة “لم نكن نعرف أحدا حين وصلنا إلى الطينة، لكن التكية جمعتنا، طهت لنا، واحتضنت أطفالنا”، مضيفة “لم يكن المكان نظيفا أو آمنا، لكنه أعاد لنا إحساسا بأننا بشر، لسنا منسيّين تماما.
وقد بنى معظم النازحون الجدد القادمين من مخيم زمزم مساكن مؤقتة من الأعشاب المحلية، لكنها لا توفر أي حماية من الأمطار وحرارة النهار التي تزداد سوءا بسبب نقص الغطاء الشجري في المنطقة شبه الصحراوية.
مواجهة مع الأمطار
ومع هطول الأمطار، تقول عفاف حقار وهي ناشطة ومشرفة على مراكز الإيواء بالمنطقة “يجب أن يكون هناك إجراء عاجل وفوري من جانب منظمات الإغاثة الدولية والحكومات الأجنبية لدعم النازحين”.
وأضافت للجزيرة نت “تواجه عائلتي أنا أيضا صعوبة في النوم بسبب الظروف الجوية حيث نفتقر المراتب والبطانيات والملابس الكافية للتدفئة”.
ورغم تصاعد الاستغاثات والمناشدات الإنسانية، لم تُسجّل زيارات أممية إلى الطينة منذ منتصف عام 2024، رغم إرسال القائمين على التكايا عشرات المناشدات إلى المنظمات الدولية.
ويؤكد المسؤولون المحليون أن الأزمة تزداد تعقيدا في ظل دخول فصل الأمطار، حيث تتوقع غرفة الطوارئ أن يزداد عدد الوافدين بنسبة 30% خلال الشهر المقبل، بينما الإمكانيات تتراجع بشكل حاد.
ويخوض الجيش السوداني وقوات الدعم السريع منذ أبريل/نيسان 2023 حربا دموية ومدمرة، تسببت في مقتل أكثر من 20 ألف شخص ونزوح ولجوء نحو 15 مليونا، بحسب الأمم المتحدة والسلطات المحلية، بينما قدّرت دراسة أعدتها جامعات أميركية عدد القتلى بحوالي 130 ألفا.