بينما كان العالم يترقب ما ستؤول إليه القمة التي جمعت الرئيسين الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين في مدينة أنكوراج بولاية ألاسكا الجمعة الماضي، تحوّل المشهد برمته إلى ما يشبه مسرح العبث، حسب وصف مقال رأي بصحيفة الغارديان البريطانية.

وأفاد سيدني بلومنثال، المستشار الكبير السابق للرئيس الأميركي بيل كلينتون وزوجته هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية السابقة، في مقاله أن كل الجهود المضنية التي بذلها الحلفاء الأوروبيون لمنع ترامب من “الانبطاح” أمام بوتين باءت بالفشل خلال قمة ألاسكا.

كأنه طفل كبير

وقال إن الأوروبيين حاولوا التودد لترامب وملاطفته وتدليله “كأنه طفل كبير” بحاجة إلى الحماية، لكن ذلك كله ذهب أدراج الرياح.

لكن الكاتب يضيف بلغة مجازية أن ترامب، “بعناده المعتاد”، رمى السياسة كما لو كانت دمية محشوة من نافذة سيارته الرئاسية، وهو يفتح الطريق أمام بوتين ليرافقه في ما يشبه “موكب نصر” شخصي.

ويرى أن ما حدث لا يعبّر عن “عقيدة ترامب” المزعومة في السياسة الخارجية، بل يكشف عن فوضى داخلية، وانحياز شخصي مقلق إلى موسكو، يقابله عجز كامل عن بلورة إستراتيجية واضحة أو حماية المصالح الغربية.

وفي مقاله النقدي اللاذع، يصوّر بلومنثال الحدث على أنه حلقة جديدة من مسلسل انهيار الدبلوماسية الأميركية، حيث تتداخل الهشاشة السياسية بالصفقات الشخصية والطموحات “الفاسدة” لعائلة ترامب.

حلم نوبل للسلام

قبل القمة، نجح الأوروبيون في دفع ترامب لربط المفاوضات مع روسيا بشرط أساسي هو وقف إطلاق النار، إلا أنه -بحسب المقال- بدّد هذه الجهود فور وصوله ألاسكا.

فحتى عندما سارع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى واشنطن، مدعوما من قادة أوروبا، لم يجد سوى وعود غامضة من الرئيس الأميركي، في حين واصلت الطائرات الروسية قصف المدن الأوكرانية.

وزعم الكاتب أن ترامب كان حينها يحلم بشيء آخر مختلف تماما وهو جائزة نوبل للسلام، لذا لم يتردد في الاتصال، قبل انعقاد القمة بوزير المالية النرويجي للضغط من أجل دعمه في هذا المسعى.

وكما حدث في هلسنكي عام 2018، ظهر ترامب هذه المرة في ألاسكا الأميركية أمام بوتين لطيفا ومتذللا تحت سمع وبصر العالم، حيث فرش السجاد الأحمر لضيفه المتهم بجرائم حرب، وصافحه بحرارة، وربّت على يده، وفتح له باب السيارة الرئاسية، في مشهد بدا وكأنه استسلام دبلوماسي علني.

اجتماع لترامب وعدد من القادة الأوروبيين والأمين العام لحلف الناتو في البيت الأبيض 18 أغسطس/آب 2025 (الأناضول)

هفوة ويتكوف

ويعتقد بلومنثال أن المبعوث الشخصي للقمة، رجل العقارات ستيفن ويتكوف، ارتكب خطأ فادحا حين أساء فهم مطالب روسيا، حين تصور أن موسكو تعرض “انسحابا سلميا” من خيرسون وزاباروجيا، بينما كان العكس تماما هو المطلوب، وهو انسحاب أوكراني من هذه المناطق.

وأوضح الكاتب أن هذه “الهفوة” أثارت سخرية وغضب الأوروبيين والأوكرانيين على حد سواء، حتى أن أحد الدبلوماسيين الأوروبيين وصف المبعوث الأميركي بأنه “مرتبك وغير كفؤ”، بينما رأى آخر أنه “لا يملك أي خبرة تفاوضية، وكأنه مجرد هاوٍ يلعب في ساحة الكبار”.

لكن صحيفة بيلد الألمانية المعروفة بتغطياتها الكاشفة، لم تتوقف عند هذا الخطأ فحسب. فقد وصفت المشهد بأنه “مفارقة كبرى”، مشيرة إلى أن الانقسامات داخل إدارة ترامب نفسها تعمّقت بشكل غير مسبوق. فوزير الخارجية ماركو روبيو أصرّ على أن يظل الأوروبيون جزءا من العملية التفاوضية، بينما كان نائب الرئيس جيه دي فانس، إلى جانب ويتكوف، يعملان على استبعادهم تماما.

ووفقا لبلومنثال، فقد أدت هذه الفوضى إلى أن يخرج الأوروبيون بانطباع قاتم، عبّر عنه دبلوماسي بارز بالقول “لقد أظهرت الولايات المتحدة نفسها للعالم وكأنها إدارة منقسمة وفوضوية”.

أما أوكرانيا، فشعرت وكأنها تُركت وحيدة في مواجهة مصيرها، بعدما كان يفترض أن القمة جاءت لإنقاذها.

بلومنثال: ويتكوف أشار أمام الروس إلى أن احتلال إسرائيل الضفة الغربية يصلح نموذجا لإنهاء الحرب

هدايا اقتصادية لبوتين

بيد أن ما كشفته صحيفة بيلد وغيرها من التسريبات لم يتوقف عند الأخطاء الدبلوماسية، بل وصل إلى ما هو أخطر وهي التنازلات الاقتصادية.

وطبقا لتلك التسريبات، فقد قدّم ترامب لبوتين سلسلة من العروض السخية التي فُسّرت على أنها محاولة لشراء ولاء الكرملين.

وأورد الكاتب في مقاله أن تلك الوعود تتمثل في:

  • رفع العقوبات عن قطاع الطيران الروسي، بما يتيح لشركاته المحاصَرة منذ بداية الحرب أن تعود إلى السوق الدولية.
  • فتح الموارد الطبيعية في ألاسكا أمام الاستثمارات الروسية، ولا سيما في الممر البحري بين ألاسكا وروسيا (مضيق بيرينغ)، بما يحمله من أهمية إستراتيجية هائلة للملاحة والتجارة العالمية.
  • قبول استغلال روسيا للمعادن النادرة في الأراضي الأوكرانية المحتلة، بما يمنح موسكو ميزة إستراتيجية كبرى في الصناعات التكنولوجية والعسكرية.

ليست زلة لسان

وكان ويتكوف قد أشار أمام الروس إلى أن احتلال إسرائيل الضفة الغربية يصلح نموذجا لإنهاء الحرب، ومن ثم يمكن لموسكو أن تسيطر عسكريا واقتصاديا على الأجزاء التي احتلتها من أوكرانيا وتخضعها لإدارة حكومية تابعة لها، شبيهة بالأمر الواقع الذي تفرضه إسرائيل على الأراضي الفلسطينية.

وفي تقدير بلومنثال أن هذه المقارنة لم تكن مجرد زلة لسان، بل رُوّج لها داخل أروقة التفاوض، وهو ما أثار قلقا عميقا لدى الأوروبيين والأوكرانيين على حد سواء.

أما بالنسبة لبوتين -والحديث ما يزال لكاتب المقال- فقد كان الأمر انتصارا إستراتيجيا يفوق التوقعات، ذلك لأنه استطاع من خلال قمة واحدة، تحويل الموقف الأميركي من الضغط على روسيا إلى إضفاء شرعية ضمنية لاحتلالها أراضي أوكرانية.

لكن هذه التنازلات لم تكن مجانية بالنسبة لترامب نفسه. فقد جرى الحديث على نطاق واسع عن مصالح شخصية واقتصادية لعائلته. فبالتزامن مع القمة، أعلنت شركات مرتبطة بعائلته مشروعا جديدا في مجال العملات المشفرة، جمع نحو 1.5 مليار دولار خلال أيام قليلة، في وقت بدا فيه أن العلاقات مع روسيا قد تُسهم في تعزيز هذا المشروع عبر قنوات مالية غير خاضعة للرقابة التقليدية، كما ورد في مقال الغارديان.

على أن الأخطر من ذلك -من وجهة نظر المستشار الرئاسي السابق في مقاله- أن مقربين من ترامب سرّبوا فكرة مفادها أن الرئيس الأميركي بدأ ينظر إلى الاحتلال الروسي لأجزاء من أوكرانيا من منظور “النموذج الإسرائيلي”: أي كما تسيطر إسرائيل على الضفة الغربية منذ عقود، مع بناء مستوطنات وفرض واقع جديد يرفض العالم الاعتراف به رسميا لكنه يستمر بحكم الأمر الواقع.

المؤتمر الصحفي المهزلة

واعتبر بلومنثال أن المشهد الأكثر درامية في قمة ألاسكا كان المؤتمر الصحفي المشترك بين ترامب وبوتين. فعندما ظهر الزعيمان أمام الصحفيين، لم يكن هناك اتفاق ولا خطة.

وكان أن ترك ترامب الكلمة لخصمه الذي كرّر مزاعمه عن “تهديد أوكرانيا لروسيا”، وألقى باللوم على الرئيس الأميركي السابق جو بايدن، بينما أعرب عن اقتناعه بأنه لو كان ترامب رئيسا لما وقعت الحرب.

أما ترامب، فظهر “شاحبا”، واكتفى بإطلاق عبارات مبهمة ومتناقضة، فقد قال مرة إن “بوتين يريد السلام”، ثم أضاف “لكننا لن نتوصل إلى اتفاق حتى يكون هناك اتفاق”، وأردف متباهيا “أنا وحدي القادر على إيقاف هذه الحرب”، معلنا أنه “لا اتفاق حتى يكون هناك اتفاق”.

كانت عباراته تلك -برأي بلومنثال- أقرب إلى شعارات حملة انتخابية منها إلى تصريحات رئيس دولة في قمة مصيرية، رغم أنه كان قد وعد بإنهاء الحرب في “اليوم الأول” من ولايته، لكنه بعد 210 أيام رجع بخفي حنين.

شاركها.
Exit mobile version