مع فكّه الارتباط بين الكنية والاسم، بين أبو محمد الجولاني وهو اللقب الذي عُرف به طيلة الفترة السابقة، وأحمد الشرع، اسمه الحقيقي، فإن من يُعرف حاليًا بلقب قائد العمليات العسكرية السورية، يكرّس نفسه نموذجًا يكاد يكون مطابقًا للأوضاع بالغة التعقيد لبلاده التي تمر بمرحلة انتقالية، لا يُعرف إلى أين تنتهي، ولا المسار الذي ستسير عليه.
تبدو الصورة للوهلة الأولى أكثر بساطة من حقيقتها، فالسوريون الذين تخلّصوا أخيرًا من نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول من العام الحالي، ما زالوا تحت صدمة الفرح بالتخلص من نظام جثم على صدورهم طويلًا.
فرار الرئيس المخلوع بشار الأسد الأحد 8 ديسمبر-غيتي
يضاف إلى ذلك، صدمة لا تقل أهمية وتتمثل في تقدّم سريع للمعارضة ومن دون قتال يُذكر، من إدلب فحلب وحماة وحمص وصولًا إلى العاصمة دمشق، وإسقاط النظام في أحد عشر يومًا (27 نوفمبر/ تشرين الثاني- 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024).
صدمة الفرح والتقدّم السريع للمعارضة
لا يعرف السوريون أسباب وأسرار الأيام الـ11 التي غيّرت سوريا وهزّت المنطقة، كما لا يعرفون الوجهة الجديدة للبلاد، إذ لا يكفي أن يستعيد أحمد الشرع اسمه الحقيقي من أبو محمد الجولاني، ليستعيد طبيعته الأولى.
كما لا يكفي فرار الرئيس المخلوع لعودة سوريا إلى ما كانت عليه قبل أن يسيطر حزب البعث على البلاد لأزيد من خمسة عقود، فديناميات التغيير ناهيك عن التغيّرات العاصفة في العالم، وتحوّل سوريا إلى مسرح لنفوذ الأضداد في الإقليم والعالم، لا تكفي للتعاطي معها نيات طيبة أو شعارات تُطلق عن القطع مع ماضي البلاد البعثي وبنائها على أسس جديدة لا يعرفها كثير من السوريين.
الشرع في دمشق صبيحة فرار الأسد-غيتي
هل استعاد أحمد الشرع نفسه من الجولاني؟
تصلح سيرة أحمد الشرع نفسه مفتاحًا لفهم التحوّلات المعقدة التي مرت بها بلاده، ومرّ بما يشبهها شخصيًا حين كان قياديًا في تنظيم القاعدة ومقربًا من زعيم تنظيم “الدولة” أبو بكر البغدادي: ما بين الاستعانة بالخارج لتغيير الداخل، والانتهاء بالصراع مع هذا الخارج نفسه الذي يسلب الداخل خصوصيته، وفي حالة سوريا استقلالية قرارها.
ولد أحمد الشرع في الرياض عام 1982 لأب كان يعمل مهندسًا في حقول النفط السعودية، وقضى السنوات السبع الأولى من طفولته هناك، قبل أن يعود مع عائلته إلى سوريا، حيث سيعيش ويدرس في حي المزة في العاصمة دمشق.
ولا تُعرف على وجه الدقة الأسباب التي دفعت من سيتخلى عن اسمه الأصلي في بداية عشرينيات عمره ويصبح أبو محمد الجولاني، إلى الذهاب إلى العراق بعد الغزو الأميركي له عام 2003، لكن الشاب فعلها بعد أن قطع دراسته للطب، مثل آلاف الشبان العرب الذين شعروا بـ”جرح في الهوية” التي أهينت بالاحتلال الأميركي لواحدة من الدول المحورية في المنطقة.
الشرع في الجامع الأموي وسط رجاله-غيتي
نزعات الجولاني الاستقلالية
بعد وصوله إلى بغداد، التحق أحمد الشرع بتنظيم “قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين”، وسرعان ما أصبح قريبًا من زعيمه أبو مصعب الزرقاوي الذي قُتل في غارة جوية أميركية عام 2006.
اعتقله الأميركيون في سجن بوكا، وبعد الإفراج عنه انضم إلى تنظيم “دولة العراق الإسلامية” بزعامة أبو بكر البغدادي، الذي أرسله إلى بلاده سوريا لتأسيس فرع للتنظيم، وهو ما فعله بتأسيسه “جبهة النصرة” في أعقاب الثورة الشعبية في سوريا ضد نظام الأسد عام 2011.
اغتالت القوات الاميركية أبو مصعب الزرقاوي عام 2006 في بغداد-غيتي
لكن الصراع سرعان ما نشب بين الحليفين الشابين، فقد رفض من أصبح يُعرف بأبي محمد الجولاني الاندماج في تنظيم واحد بقيادة البغدادي، محكومًا ربما بنزعات استقلالية تُعلي من شأن الإقليم الوطني أو الدولة الأم على الأفق العابر للأوطان والحدود الذي كان يدفع باتجاهه أبو بكر البغدادي الساعي إلى إقامة دولة الخلافة في المنطقة بأسرها.
أحمد الشرع و”ثنائية الإسلامية والوطنية”
لعلّ العلاقة الشائكة بين “إسلاميته” غير المقيّدة بحيز جغرافي و”وطنيته” التي تسعى إلى توطين أفكاره في إقليم جغرافي محدد، في دولة ينتمي إليها، دفعته إلى الصراع على جبهتين في الوقت نفسه: جبهة البغدادي وجبهة الجيش السوري الحر والائتلاف الوطني السوري، فلا هو مع ثورة عابرة للحدود ولا هو مع جبهة سياسية أو عسكرية محض وطنية لكنها ليست إسلامية. فماذا يفعل؟
مقاتلون من الجيش السوري الحر-غيتي
المزيد من الصراعات لأخذ موقع يلائمه، والمزيد من الابتعاد عن الجولاني لصالح الشرع، وفي الوقت نفسه القليل من التنازل ليصبح مقبولًا أكثر من أنصار إسلامية سوريا ووطنييها.
وعلى خلاف الجيش السوري الحر والائتلاف الوطني، كانت نزعة الجولاني الاستقلالية تذهب به إلى تثبيت الحقائق على الأرض وسلطته في الميدان، وكانت إدلب انطلاقته.
أصبح زعيمًا لهيئة تحرير الشام بعد طلاقه مع جبهة النصرة (تنظيم القاعدة)، ومرور قصير لتنظيمه عند محطة “جبهة فتح الشام”، ليستقر على التشكيل السياسي الجديد “هيئة تحرير الشام”، وتشكيل جناح خدمي لها أو إداري، هي حكومة إنقاذ تتولى إدارة الأراضي المحررة تحت سلطته.
كانت تحوّلات تؤكد أمرين، أولهما أنه انتصر في حروبه السابقة ضد ما هو عابر للحدود، والثاني براغماتيته وواقعيته في تحقيق أهدافه، وتقوم على مبدأ القضم التدريجي من سلطة النظام السوري، وإذ كان يفعل كان أحمد الشرع يقضم الكثير من أبو محمد الجولاني ويسترد نفسه ببطء، من دون أن يستطيع حل التناقضات بين الاثنين في داخله.
الجولاني متيقّظ والشرع متحفّز
في أثناء ذلك حرص الجولاني على ما يمكن وصفه بمغازلة الغرب والأقليات والدعوة إلى مدنية الدولة والتوجه، بينما كان الجولاني في داخله متيقظًا، والشرع متحفّزًا، من دون أن ينتصر أحدهما على الآخر، وإن بدا الرجل حريصًا على الإعلان عن فك الارتباط بينهما.
فما الحل؟ أن يتسامى على صراع الضدين، أن يصبح مرشدًا.
تكليف محمد البشير رئاسة الحكومة الانتقالية-غيتي
كلّف أحمد الشرع (الجولاني) يوم الثلاثاء، محمد البشير بتولي رئاسة الحكومة الانتقالية التي ستشرف على إدارة البلاد حتى الأول من مارس/ آذار 2025.
وفي صور بثت قبل ذلك يظهر الشرع متوسطًا رئيسي وزراء النظام السوري السابق محمد غازي الجلالي والمكلّف محمد البشير، وتقدّم الصورة سيميائيًا ما يمكن اعتباره طموح الشرع (الجولاني) للتحوّل إلى مرشد يعلو بسلطاته عن المناصب، وإن ظل يحتفظ بها، في معادلة صعبة تعكس صراع الجولاني والشرع في داخله، ومحاولته الهروب من لحظة انفجار الصراع وحسمه لصالح أحدهما مرة واحدة وإلى الأبد.
علمان ورجل واحد
ولهذا الصراع تمثّلات وأشكال أخرى، ففي الصور التي يظهر فيها رئيس الحكومة الجديد محمد البشير هناك علمان خلفه: علم سوريا- الثورة وعلم هيئة تحرير الشام.
وفي بيان جديد أصدره الأربعاء قال الشرع إن بلاده “لن تنخرط في حرب أخرى”، وسبب ذلك أن الناس منهكة من الحرب، بالتالي فليس “لدى الدول الأجنبية ما تخشاه من سوريا بعد الإطاحة بنظام الأسد”.
يحصل كلّ ذلك، في وقت لا تغيب إسرائيل عن المشهد، بعدما استغلّ رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو التطورات، ليدخل على الخط، تارةً بإعلانه انهيار اتفاق الهدنة أو فكّ الاشتباك بين القوات الإسرائيلية والسورية عام 1974، وطورًا بإصداره أوامره للجيش بالسيطرة على المنطقة العازلة بين البلدين بموجب الاتفاق، لينفذ الجيش الإسرائيلي في أعقاب ذلك مئات الضربات العسكرية من الجو والبحر داخل الأراضي السورية، في غضون ساعات فقط.
لعلّ الشرع (الجولاني) يريد بمواقفه، على اختلافها، طمأنة الداخل والخارج بشأن توجّهات سوريا الجديدة، وخصوصًا في ظلّ المخاوف التي قد تكون مشروعة من سيناريوهات الفوضى والمجهول، لكنّها حتى الآن تبدو مشرّعة، على وقع الرغبة بالمواءمة بين متطلبات الثورة على النظام السابق وقد أخرجته من الحكم، ومتطلبات بناء الدولة من جديد، وهي تتطلب التأكيد على سيادتها على أراضيها وقرارها.
ماذا على الشرع (الجولاني) أن يفعل؟ أن ينتصر أحدهما على الآخر.