لا يزال الغموض مسيطرا على العلاقة بين الحكومة السورية الجديدة وإسرائيل، التي لا تتوقف عن محاولات تقويض قدرة دمشق على النهوض مجددا، عبر تغذية النزعات الانفصالية لدى الأقليات، سياسيا وعسكريا.

ففي خطوة يصفها محللون بالواسعة، ويصفها آخرون بالتكتيك، بدأت الحكومة السورية مباحثات مباشرة مع إسرائيل، برعاية أميركية، وذلك لبحث ترتيبات أمنية على الحدود، حسب ما أكده مصدر للجزيرة.

وكانت القناة الـ12 الإسرائيلية قد نقلت -الأحد- عن مصدرين وصفتهما بالمطلعين، أن وزير الشؤون الإستراتيجية رون ديرمر والمبعوث الأميركي توم براك سيلتقيان وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني في العاصمة الفرنسية باريس، لبحث الترتيبات الأمنية على الحدود بين البلدين، دون ذكر تفاصيل أخرى.

وسبق أن ذكرت القناة الـ13 الإسرائيلية الشهر الماضي أن المسؤولين الثلاثة أجروا “لقاء مهما للغاية” في باريس، لكنها لم تتحدث عن تفاصيل ما جرى في ذلك اللقاء أيضا.

وقد أكدت وكالة السورية للأنباء (سانا)، أن الشيباني التقى وفدا إسرائيليا في باريس الثلاثاء “لمناقشة عدد من الملفات المرتبطة بتعزيز الاستقرار في المنطقة والجنوب السوري”.

خطوة واسعة ومجانية

وهذا اللقاء هو الأول الذي يتم الإعلان عنه بشكل رسمي من جانب دمشق، ويرى محللون أنه يمثل خطوة واسعة ومجانية من سوريا تجاه إسرائيل التي لا تخفي لا نواياها في تقسيم سوريا وجعلها بلدا فاقدا لأهميته التاريخية والجيوسياسية.

لكن آخرين يرون أن هذه اللقاءات لا تعكس إستراتيجية سورية بعيدة المدى بقدر ما هي تكتيك لحل بعض الخلافات الداخلية التي تحول دون وحدة السوريين وتأسيس دولتهم الجديدة، التي لن تجعل الصديق عدوا والعدو صديقا كما يعتقد البعض.

وتحاول دمشق من خلال هذه الاجتماعات تهدئة التخوفات الأمنية الإسرائيلية عبر الدبلوماسية التي لم تتمخض عن اتفاقات واضحة، كما يقول المحلل السياسي السوري سعد الشارع.

ووفق ما قاله الشارع لبرنامج “ما وراء الخبر”، فإن هذه النقاشات تتزامن مع مسار داخلي تقوده الحكومة السورية حتى تتمكن من تبريد ملف الأقليات والقيام بمسؤولياتها الوطنية.

ونظرا لنوايا إسرائيل الأمنية والجيوسياسية التي تحاول تحقيقها عبر دروز السويداء، يصبح هذا التحرك السياسي من جانب دمشق تكتيكا لوقف تغذية النزعة الانفصالية أكثر من كونه إستراتيجية كاملة.

بيد أن ما يراه الشارع ميزة في الدبلوماسية السورية، يراه المحلل السياسي إبراهيم الجبين، عيبا، ويقول إن عدم بلورة هذه المقابلات في مخرجات واضحة ومعروفة يعني أنها بلا قيمة ولا تعدو كونها مكافئة لإسرائيل على تدخلها في دمشق.

وبما إن إسرائيل هي التي تريد تقسيم سوريا عبر بوابة الأقليات، فإن الاستعانة بها يبدو نوعا من “الخرافة السياسية” التي تعكس عقلية الحكومة السورية الجديدة التي تتحرك ببراغماتية تفتقد للمبادئ.

وإذا كان الهدف من الجلوس مع الإسرائيلي هو الحيلولة دون تفاقم أزمة الأقليات، فقد كان الجلوس مع المكونات السورية نفسها أقرب وأقصر لحكومة دمشق من الجلوس مع تل أبيب، كما يقول الجبين.

مقدمة لشيء غير معروف

والأهم من ذلك، أن حكومة سوريا لا تزال مؤقتة وتجاهد لتثبيت شرعيتها داخليا ومن ثم فهي ليست مفوضة من شعب ولا برلمان ولا أحزاب ولا معارضة لوضع مسار مستقبلي بين سوريا وإسرائيل.

ومن هذا المنطلق، فإن إسرائيل التي رفع الدروز أعلامها في السويداء، بعدما قصفت مختلف مناطق سوريا وصولا إلى مبنى قيادة الأركان بالعاصمة دمشق، حصلت اليوم على ما تريد، وهو الجلوس مع حكومة أحمد الشرع، برأي الجبين.

وانطلاقا من هذا الفهم، يقول المحلل السوري إن الجلوس في حد ذاته يعني أن إسرائيل يمكنها حجز دور لنفسها “كلاعب فاعل في الوحدة الوطنية التي يحاول تحقيقها، أي أنها ستشارك في رسم سوريا الجديدة”.

وبناء على ذلك تبرز وجهة نظر تقول إنه كان الأجدر بدمشق، ألا تدير ظهرها لقوى إقليمية وازنة كالمملكة العربية السعودية وقطر، اللتين دعمتا حكومة الشرع، واللتين رهنتا الجلوس مع إسرائيل بحل القضية الفلسطينية.

غير أن الوضع الإقليمي الذي وصلت فيه حكومة الشرع للحكم في سوريا، والذي يصفه الباحث الأول بمركز الجزيرة للدراسات الدكتور لقاء مكي، بأنه الأكثر تعقيدا منذ 100 عام، يفرض على دمشق القيام ببعض الأمور التي تبدو أكثر واقعية.

فقد استثمرت إسرائيل في التمرد الهائل في السويداء والساحل السوري ومنطقة الأكراد، حتى تتمكن من تهميش الدور الجيوسياسي المهم جدا لسوريا التي تمثل العمق التاريخي للقضية الفلسطينية.

غير أن هذه المكاسب قصيرة الأمد التي ترى دمشق أنها حققتها من خلال واقعيتها السياسية في التعامل مع الأزمات، قد لا تساوي أبدا المخاطر الكبيرة التي ستترتب على هذا المسار مستقبلا، برأي مكي.

وعلى هذا الأساس، فإن لقاء باريس “يمثل خطوة واسعة كان يمكن تأجيلها بدلا من حرق المراحل في المفاوضات، وهو لقاء مجاني أيضا لأن إسرائيل لم تدفع ثمن جلوسها المباشر مع دولة عربية كبيرة مثل سوريا”.

ومع ذلك، لا يستبعد مكي أن يكون هذا الجلوس المباشر السريع إسرائيليا أو أميركيا لإنجاز شيء ما لا يعرفه أحد، وحتى لو تراجعت دمشق عن مسار اللقاءات المباشرة فإن ما بدأ اليوم “قد يكون مقدمة لأمر كبير يحدث بعد شهور من الآن”.

شاركها.
Exit mobile version