اختراق الطائرات الروسية لأجواء بولندا يختبر عزم الناتو
حث الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي حلفاء كييف، الخميس، على إعادة النظر في قدراتهم الدفاعية الجوية بعد أن اخترقت طائرات مسيرة المجال الجوي لبولندا التي تقول إنها تابعة لروسيا.
وقال زيلينسكي، في كلمة ألقاها في كييف بجانب الرئيس الفنلندي ألكسندر ستوب، إن أوكرانيا «منفتحة ومستعدة» لتقديم الدعم للجهود التي يبذلها الحلفاء.
ولا تزال ردود الفعل تتوالى على التطور الخطير وغير المسبوق منذ تأسيس حلف شمال الأطلسي (الناتو)، حين وجد نفسه للمرة الأولى يشتبك مباشرة مع معدات عسكرية روسية داخل أراضيه، بعدما اخترقت 19 طائرة روسية دون طيار المجال الجوي البولندي، ما أدى إلى إسقاط بعضها من قِبل مقاتلات بولندية وهولندية.
وأفادت وزارة الخارجية البولندية في منشور على «إكس»، بأنه «بناء على طلب بولندا، سيعقد مجلس الأمن الدولي اجتماعاً طارئاً بشأن خرق روسيا المجال الجوي البولندي».
وقال وزير الخارجية البولندي رادوسلاف سيكورسكي لإذاعة «آر إم إف إف إم» إن بولندا تريد بذلك «لفت انتباه العالم بأسره إلى هذا الهجوم غير المسبوق الذي شن بمسيّرات روسية على بلد عضو ليس فقط في الأمم المتحدة بل كذلك في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي». وأضاف أن الانتهاك «ليس اختباراً لبولندا فقط بل أيضاً لحلف شمال الأطلسي برمته، وليس على الصعيد العسكري فقط بل السياسي أيضاً».
وأعلنت الحكومة السويدية، الخميس، عن مساعدات عسكرية لأوكرانيا بقيمة إجمالية تبلغ 80 مليار كرونة (7.3 مليار يورو) لعامي 2026 و2027. وقال وزير الدفاع بال جونسون: «نؤكد بذلك على الطابع المستدام في مجال الدعم الذي نقدمه لكييف». وأضاف: «أود أيضاً أن أوضح أنه حتى لو تم التوصل إلى وقف لإطلاق النار أو حتى اتفاق سلام، فإن الدعم العسكري السويدي لأوكرانيا سيظل مهماً، وسيستمر حتى بعد التوصل إلى وقف لإطلاق النار أو اتفاق سلام».
وعبّر الكرملين، الخميس، عن رفضه لتصريحات وارسو ودول أوروبية أخرى، ووصفها بأنها ليست جديدة، وقال إن موسكو لن تدلي بأي تعليق آخر على الوضع.
وبينما سارع قادة أوروبا إلى التنديد بهذا التوغل بوصفه تصعيداً مباشراً من موسكو، جاء تعليق الرئيس الأميركي دونالد ترمب مفاجئاً في غموضه وصمته المقلق، ما أثار جدلاً داخلياً وخارجياً حول التزام واشنطن بأمن الحلف.
وأفاد مسؤول في البيت الأبيض لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»، طالباً عدم الكشف عن هويته، بأن «الرئيس ترمب والبيت الأبيض يتبعان التقارير الواردة من بولندا، وهناك خطط للرئيس ترمب للتحدث إلى الرئيس البولندي اليوم».
ورغم التحليلات والتصريحات التي حفلت بها وسائل الإعلام الأميركية التي عدت الاختراق الروسي اختباراً لرد فعل واشنطن والناتو على حد سواء، جاء رد ترمب، عبر منشور على منصته «تروث سوشيال»، تعليقاً مقتضباً على «حادثة» التوغل قائلاً: «ما شأن روسيا بانتهاك المجال الجوي البولندي بطائرات دون طيار؟».
لم يتضمن التصريح أي إدانة، ولم يُشر إلى التزام الولايات المتحدة بالدفاع عن أراضي الناتو، ما أثار قلقاً واسعاً بين المسؤولين الأوروبيين، خصوصاً في ظل تصاعد حدة الهجمات الروسية على أوكرانيا وتواتر تجاوز الخطوط الحمراء.
اختبار للناتو أم حادث عرضي؟
وبينما تحاول موسكو ووكالاتها الإعلامية الترويج بأن الطائرات المسيّرة انحرفت «عن طريق الخطأ»، شدد مسؤولون بولنديون وأوروبيون على أن العملية كانت مقصودة تماماً، وتهدف إلى اختبار قدرات الحلف على الرد والردع.
وزير الدفاع الألماني، بوريس بيستوريوس، كان حاسماً بقوله: «لا يوجد أي مؤشر على خطأ في المسار أو خلل تقني… هذا كان اختباراً متعمداً». في الوقت نفسه، أعلن حلف الناتو أنه فتح تحقيقاً في الحادث، لكن أمينه العام، مارك روته، قال إن «النية الروسية ليست مهمة… ما حدث خطير ومتهور».
عقب الحادث، تحدث الرئيس ترمب هاتفياً مع الرئيس البولندي كارول ناوروكي الذي كان التقاه قبل أسابيع في البيت الأبيض. وبحسب بيان عن المحادثة، لم يُقدّم ترمب أي التزامات أمنية جديدة، واكتفى بإشارات فضفاضة إلى «تقدير بلاده للدور الدفاعي لبولندا»، وهي الدولة التي تستضيف نحو 10 آلاف جندي أميركي.
غير أن العديد من المسؤولين الأوروبيين، الذين تحدثوا إلى وكالات إعلامية وصحف أميركية، عبّروا عن خيبة أملهم من موقف ترمب، وعدّوه امتداداً لسياساته الغامضة تجاه أوروبا وأوكرانيا. وقالت ألينا بولياكوفا، رئيسة مركز تحليل السياسات الأوروبية: «يتزايد الإحباط من عدم وجود موقف حازم من واشنطن… بوتين يراقب».
وسط هذا الغموض، بدا أن الكرة قد تكون في ملعب الكونغرس، حيث يمكن للمشرعين أخذ زمام المبادرة، كما فعلوا في عام 2017، عندما أقر الكونغرس حزمة عقوبات على روسيا بأغلبية ساحقة، مما أجبر ترمب المتردد على توقيعها. وقال زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ السيناتور جون ثون إن المشرعين كانوا يناقشون الأمر، الأربعاء.
وهناك مشروع قانون جاهز كان قد قدمه السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام مع الديمقراطي ريتشارد بلومنثال، لمعاقبة الدول التي تشتري النفط والغاز الروسي. كما صوّتت لجنة في مجلس النواب لصالح قانون يُحوّل 50 مليار دولار من الأصول الروسية المجمدة لأوكرانيا. وفي هذا السياق، قالت كاتارينا ماثرنوفا، سفيرة الاتحاد الأوروبي في كييف: «غياب العواقب هو ما يشجع بوتين… هذه الطائرات فوق بولندا لم تكن صدفة».
تصعيد روسي بطيء
وترى عواصم الناتو أن روسيا تتبنى استراتيجية «تصعيد بطيء» لاختبار الحدود الغربية دون إشعال حرب مباشرة، من خلال توغلات بالطائرات دون طيار، وضرب أهداف حساسة في أوكرانيا قريبة من حدود الناتو، مثل مجمعات الغاز ومحطات التصنيع.
ويقول محللون إن روسيا تقاتل عند حدود قدراتها العسكرية التقليدية أو تقترب منها في أوكرانيا، مما يمنحها قدرة محدودة على التصعيد عسكرياً. ومع ذلك يقولون إن التحركات الرمزية، مثل قصف مصنع أميركي في غرب أوكرانيا، وقصف مجمعين دبلوماسيين أوروبيين ومبنى حكومي أوكراني رئيسي في كييف، والتشويش على طائرة مسؤولة أوروبية كبيرة، والآن اختراق بولندا، هو اختبار للدفاعات العسكرية وبعث رسالة قوة.
مع تصعيدها لاستفزازاتها شيئاً فشيئاً، سعت روسيا إلى إفساح المجال للشك في ضرباتها. ويُرجّح محللون أن روسيا أرادت من توغل بولندا الأخير جمع معلومات استخباراتية عن دفاعات الحلف، وبعث رسالة واضحة حول ما يمكن أن يحدث إذا قررت دول أوروبية إرسال قوات إلى أوكرانيا مستقبلاً.
وفي ظل حديث ترمب عن تقليص التزامات أميركا العسكرية في الخارج، وخاصة في أوروبا، واستعداده لإعادة تمركز القوات في آسيا، تزداد الشكوك حول مدى جدية المادة الخامسة من ميثاق الناتو في حال وقعت مواجهة فعلية مع روسيا. يقول بيوتر كراوزيك، الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات البولندي: «موسكو اختبرت الناتو، لكنها كانت تستهدف واشنطن فعلياً»، مضيفاً أن «الرسالة كانت: هل ستدافع أميركا فعلاً عن أوروبا؟».
غموض ترمب يضعف الردع؟
ورغم تصريحات ترمب الإيجابية السابقة عن التزامه تجاه بولندا «أكثر من أي بلد آخر»، فإن تردده الحالي في إدانة روسيا يُضعف موقف الناتو في لحظة حرجة. وبينما يشيد ترمب ببولندا على إنفاقها الدفاعي المرتفع (4.7 في المائة من ناتجها المحلي)، يبدو غير مستعد لاتخاذ إجراءات قوية ضد الكرملين، خاصة بعد قمته الأخيرة مع بوتين في ألاسكا، والتي لم تسفر عن وقف إطلاق النار أو لقاء بين بوتين وزيلينسكي.
وقال رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك، أمام البرلمان: «نحن أقرب من أي وقت مضى إلى صراع مفتوح في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية». كما حذّر مسؤولون في ليتوانيا وإستونيا من أن روسيا ستُصعّد الاستفزازات إذا لم تواجه رداً حاسماً من الناتو، مطالبين بنشر دفاعات جوية متقدمة على الحدود الشرقية، ليس فقط لحماية أوكرانيا، بل لضمان أمن أراضي الحلف.
ويقارن البعض ما قام به ترمب ضد إيران في الحرب الأخيرة، حين نفذ تهديداته واتخذ إجراءات ضد برنامجها النووي، لكنه لم يُظهر نفس الحزم ضد بوتين. ومع تصاعد الضغط الداخلي والخارجي، يجد ترمب نفسه أمام خيارات واضحة؛ إما توجيه رسالة قوة واضحة لروسيا من خلال عقوبات أو تحركات عسكرية رمزية (كزيادة تمركز القوات)، أو ترك الكونغرس ليتدخل بفرض عقوبات على روسيا.
ومع ذلك، ورغم وجود العديد من الإجراءات التي يمكنه اتخاذها دون الحرب، لكن من غير المتوقع أن يقوم بنشر المزيد من القوات في أوروبا، لكنه قد ينقل كتائب ومعدات إضافية موجودة بالفعل في القارة إلى بولندا كإظهار للدعم. وقد يُعلن الناتو استعداده لإسقاط الطائرات المسيرة فوق المجال الجوي الأوكراني إذا بدا أنها متجهة إلى أراضي أي دولة عضو. أما الاستمرار في سياسة الغموض، فقد يُفسّرها الكرملين على أنها دعوة مفتوحة لمزيد من التصعيد.